رواية تتأرجح بين عالمَين

14 يوليو 2021
من حديقة النباتات في كاتوري، جنوب طوكيو (Getty)
+ الخط -

منذ روايته "الغابة النرويجية"، تعلّق اسمُ هذا الروائي الياباني، هاروكي موراكامي، في ذاكرتي. كانت هذه هي الرواية الأشدَّ كثافة بين رواياته اللاحقة. ربما كان السببُ صورة الغابات البعيدة في أقصى الشمال، أو تلك الموهبة التي تحشد أمكنة وأزمنة شاسعة في حيز ضيّق ظاهرياً، ولكنه يضفو دائماً، ويتّسع ويمتدّ إلى ما وراء النص ذاته، أو قد يكون السبب أنّني قرأتُه وأنا أتذكّر في الوقت ذاته روائيّين يابانيّين آخرين يتجمّعون مثل نسّاك منعزلين تحت ضوء شاحب، كاواباتا، وتانيزيكي، وميشيما، أو أتذكّر شعراء القصيدة القصيرة المأهولة المسمّاة "هايكو"، فوجدته يحاول القبض على عالمَين؛ عالم يابان الأشياء الصغيرة الملتمعة بأفكار كونية بسيطة بساطة جواهر نادرة، وعالَم معاصر صاخب، عالَم الآخر الغربي الذي اقتحم ظلالَ المختليات البيتية اليابانية التي امتدحها تانيزيكي، وجلسات تقديم الشاي ومراسمها، وفنّ تنسيق الزهور، وعزلة معلمي بوذية الزن، بأرضه اليباب وكآبة عصوره الوسطى ومطاراته وموسيقاه الصاخبة وأفلام هوليوودية، وأسواق أسهمه الباحثة عن معنى.

قد يكون موراكامي كلَّ هذا، إلّا أن المحور دائماً هو التأرجح بين عالمين يبدو الإنسان في أحدهما ملتمعاً بالشعر ضاجّاً بالحياة، ويبدو في الآخر مستضاءً بنور عمود كهرباء، أو أضواء سيارة عابرة، حزيناً تراوده رغبة غير مفهومة في الموت. هل يقف الشعر/ الحياة ضد الموت حتماً، أم العكس؟ أم هي مجرّد فكرة عابرة لروائي؟

بين يديّ روايته "جنوب الحدود، غرب الشمس"، وأجد فيها الحشد ذاته رغم أنَّ خيوطه السردية توحي بالعكس، بقصّة حب رومانسية بسيطة كما يقول أحد نقّاده، أو هي كلُّ هذا مع ثقل همّ وجودي باحث عن حكمة في كلّ شيء عند ناقد آخر. 
وأنا أُقبل على نص الرواية، وأذهب إلى ما كتب عنها، فضولاً وحب استطلاع، لفتت نظري ملحوظة كتبها أمير حسين في "الإندبندنت" البريطانية: "يكتسب هذا النثر البسيط وهجاً يرفعه إلى مصاف الشعر". وملحوظة كتبتها هيلين رومبيلو على صفحات "التايمز": "إنها أشبه بكتابة حلم، تمتلك مشاهدها التماعة القصيدة".

يابان الأشياء الصغيرة في مقابِل عالَم معاصر صاخب

هذه ليست المرّة الأولى التي أصادف فيها من يجعل الشعرية امتيازاً لرواية، فقبل ذلك صادفتُ مقولة مدهشة يبرّر فيها ميلان كونديرا عظمة رواية الكولومبي غارسيا ماركيز، "مائة عام من العزلة"، بالقول عنها إنها شعرٌ خالص. أحب في هذه الإطلالة أن ألفت النظر إلى هذا، وأرفعه مقابل الإشاعة العربية "النقدية" التي نسمعها أحياناً حين ينظر بعضهم إلى الشعرية بوصفها نقيصة في الإبداع الروائي، لا سمةً من سمات الإبداع الروائي. ويتواصل تعميم هذه الإشاعة من دون أن يتقدم أحد حتى بتقرير بسيط يُسندها ويُخرجها من مجرّد هراء نقدي لا قيمة له إلى شيء يمكن الدفاع عنه على الأقل.

الشعرية رافعة أساسية، ليس بوصفها وسيلة تعويض عن نقص ما كما قال لي أحدهم ذات يوم، بل بوصفها أسلوب بناءٍ راق يعلو بالسردِ فوق آليات التقرير الصحفي وتسجيل الحكايات لمجرّد الحكي. في هذا الأسلوب تنتقل اللغةُ من وظيفتها العامّة إلى وظيفة أكثر خصوصية تحمل بصمة فكرٍ وشعورٍ خاصَّين بكاتب محدّد، وينتقل الكاتبُ بهذه الخصوصية من المعنى إلى ما وراءه.

الشعرية أسلوبُ رؤية وإحساس وليست هي النظم الشعري أو الكلمات الهلامية المسماة "شعرية". ويبني هذا الأسلوب الأحداث الروائية بالطريقة نفسها التي يبني بها معماريٌّ صرحاً، أي بواباتٍ وممرّاتٍ وقاعاتٍ وطوابقَ ونوافذَ لا مجرّد كلمات مزجاة بأي طريقة، مثل تلك الطرق التي تفيض فيها الكلماتُ من دون جسد ملموس أو مغناطيس يجمع شتاتها العاطفي والفكري.

الواضح أن وراء هذه الالتماعات التي تشبه التماعات القصيدة تراث أدبي، وليس مجرّد نزوة عابرة لروائي. بدليل أننا نجد اللمسة الشعرية ذائعة في شتّى مناحي المجتمع الياباني؛ في مراسم تقديم الشاي، وتصميم الحدائق، والفيض العاطفي الدامع الذي يرافق الاحتفاء بمواسم تفتح أزهار أشجار الكرز، وفي فن التصوير الذي يتميّز بما يتميّز به الشعر من تقانات مثل عدم الاكتمال، وأقلّ ما يمكن من ضربات فرشاة وخطوط، وفي فنّ بناء أجنحة على يمين ويسار مبنى غير متناظرة، وأخيراً في تفضيل الطبيعي والعفوي والبسيط في مشهد الحدائق، لا على التنسيق الصارم وكنس أوراق الشجر المتساقطة في الخريف التي يعدها الياباني بذاتها في هذا الوضع جميلة، ويحرص على تركها في أماكن تساقطها، كما يحرص على استخدام الصخور الطبيعية بلا تشذيب.

هل يقف الشعر ضد الموت حتماً أم هي مجرّد فكرة روائي؟

هي إذاً قيم جمالية لا مثيل لها في عالم الغرب، وبالتالي لا وجود لها في عالم التابعين له. تركّز هذه القيم على جماليات ما هو بمثابة قطعة خشب أو رخام لم يلمسها فأس ولا إزميل نحّات، وعلى عدم الاكتمال والمساحات الفارغة، كما هو الأمر في بواكير موسم تفتح الأزهار، أو نهاياتها حين تتساقط بعد ذبولها، وفي الفضاء الذي يظل بحاجة إلى مشاركة المشاهد أو القارئ، سواء كان فضاءً خالياً في لوحة تشكيلية أو فجوةٍ بين الكلمات في قصيدة، أو انتقالاتٍ في مشاهد رواية لا تتعاقب بقدر ما تتزامن. 

للمشاهد والقارئ مكانة دائماً في هكذا عوالم، فعلاقة هذين بالروائي والرسّام والشاعر ومنسّق الحدائق ومهندس المباني... إلخ، تكاد تكون واحدة؛ إنها علاقة مضيف بضيفه، علاقة يتبادلان فيها الأدوار. أحدهما يكمل الآخر. ولهذا وجدتُ، وأنا أقرأ هوراكي موراكامي، مثلما وأنا أقرأ آخرين من الروائيّين اليابانيّين، أنّني أحد أبطال رواياته، أو مراقب مشارك على الأقل. وفي كلا الحالين، يحدث نوع من التقمُّص، هو ذاته ما يحدث حين نتقمّص مشاعر شاعر أو نبتهج بمشهد لوحة، حتى ليكاد المرءُ المأخوذ يتساءل عمّا إذا لم تكن هناك طريقة للدخول في المشهد، ومغادرة موقف المتفرّج.

هذه هي الشعرية في أكمل وأنقى صورها؛ أن يتخيّل المرء أنَّ من الممكن مثلاً مغادرة عالمه وعبور الأفق إلى ما وراءه، على سبيل المثال، أو أن يدخل عبر المرآة إلى عالم آخر كما يحدث في القصص الخيالية.


* شاعر وروائي وناقد من فلسطين

موقف
التحديثات الحية
المساهمون