الروايات التي أحدثت ضجيجاً أكثر من أن تحصى، فدور النشر في العالم تُصدر الكتب على مدار الساعة، وقد يرافق بعضَها الضجيجُ أسبوعاً، أو عاماً بكامله، تحصد دور النشر من جرّائه بيع مئات آلاف النسخ، وربما نال الكاتب جائزةً، وتحوّلت روايته إلى فيلم سينمائي. كانت هوليوود تتلقّف الروايات التي تحظى بإقبال القرّاء عليها، إذ تضمن شهرتُها مزيداً من المشاهدين. فتأخذ حظّها ثانية على الشاشة الذهبية، بعدما أخذت حظّها في الصحافة.
يمكننا إيراد أسماء لمئات الروائيين الذين أصابتهم الشهرة بضعة أسابيع، أو مَن لم تفارقهم طوال عقد وأكثر، مثل جون غريشام، الروائي الأكثر شهرة في أميركا طوال تسعينيات القرن الماضي؛ تابعه القرّاء المعجبون به، ومنهم مَن لم يزلْ وفيّاً له حتى بعدما تراجعت شهرته. وقد يعتبر غريشام استثناءً، وليس بالمثال الأكثر شيوعاً.
لا يأتي النقد على ذِكر كثير من الأسماء الروائية المُجيدة
المستغرَب أنّ الذين حظوا بالشهرة في القرن الماضي بفضل رواج كتبهم، لم تكن أهمّيتهم في الرواية تضارع على الإطلاق روائيين أثبتوا جدارتهم في الرواية. وإذا أخذنا عاماً لا على التعيين، وليكن عام 1953، فسوف يقدّم مثالاً مثيراً، يعتبر فضيحة ثقافية نموذجية. ففي هذا العام كانتِ الأكثرَ شهرة ومبيعاً روايةُ لويد دوغلاس "الحبل". في العام نفسه، صدرت روايات لجيمس بلدوين، وسول بيلو، ووليم بوروز، وإيان فلمنغ، مبتكر شخصية جيمس بوند، و ج. د. سالنجر، الأسطورة الروائية، صاحب "الحارس في حقل الشوفان" وراي برادبوري، مؤلّف الرواية الشهيرة "فهرنهايت 451"... من دون تحقيق شهرة أو مبيعات لافتة. مرّت هذه الروايات كعناوين عادية جدًّا، بل كسدَ بعضُها، وبعد عقود أصابتها الشهرة، وأعيد طبعها مراراً.
على المنوال نفسه، كمثال آخر، نرى الأمر بصورة أوضح في رواية "كم كان وادينا أخضر" للروائي الأميركي ريتشارد لويلن، التي حازت شهرة هائلة، وتربّعت على رأس قائمة عام 1940. في العام نفسه، لم تحظ بالشهرة ولا بالرواج ولا بالقراءة، رواياتٌ مثل "ظلام في الظهيرة" لآرثر كوستلر، ورواية "القلب صيّاد وحيد" للروائية كارسون ماكولرز، ورواية "ابن البلد" لريتشارد رايت. في حين امتدّت شهرة رواية لويلن إذ حوّلتها هوليوود إلى فيلم سينمائي عام 1941 من إخراج جون فورد، وبسبب شهرتها ربح الفيلم الأوسكار في مواجهة عبقري السينما أورسون ويلز وفيلمه "المواطن كين"، الذي سيصبح من أهمّ عشرة أفلام في تاريخ السينما.
في بلادنا ليس الأمر أسوأ ولا أحسن، جرّاء عدم شيوع القراءة، فلا معايير ولا جماهير ترحّب أو تنبذ، والأدب محروم من الجماهيرية، مع أنّ القليل من الأدباء حظوا بسمعة طيبة يبدو أنّ الأجيال ستتناقلها وتتوارثها، لاستقرار الرأي عليهم. ذلك أنّ النقد لا يخاطر، هو حذرٌ جدًّا، فقد أعطى بضعة أدباء سمعةً يبدو أنّها لن تزول، ولا مشكلة، لكن لا يُضاف إليها تقريباً أحدٌ، وإذا أُضيف إليها أديبٌ، سرعان ما يدخل في دائرة النسيان. فالأدباء الذين احتفظوا بالدرجات الأولى كانوا المصري نجيب محفوظ والسوداني الطيب صالح والجزائري محمد ديب، ومن ذوي الشهرة الطائرة السوري حنا مينه، والسعودي عبد الرحمن منيف، والمصري جمال الغيطاني. طبعاً هناك غيرهم من الروائيين المجيدين فعلاً، لكنّ النقد لا يأتي على ذِكرهم كثيراً، لكنّهم من دون جدال احتلّوا مكاناً في تاريخ الرواية العربية. بينما كانت الصحافة سخيّةً في خلط الصالح بالطالح، الجيّد بالرديء، فالصداقات تتطلّب ذلك والمجاملات أيضاً، عدا عن الدعاية والترويج، كلٌّ لبلده، وكأنّها مهمّة وطنية، فكان التلويح بالكثيرين لمجرّد أنّ لهم سلطة في مؤسّسات ثقافية، خفاياها غير مطمئنة.
وهكذا تخلو الساحة الأدبية من المُجيدين الجُدد، لا لسبب، فقط لاحتلالها من المتسلّقين عليها. وهذا عائد إلى النقّاد، خصوصاً النقّاد المحترفين الذين استولوا على منابر ثقافية، واستغلّوها لعقْد أواصر المنفعة. فلم تحظَ المحاولات الجديدة في الكتابة بمراجعات جادّة، لأنّها لا تدرّ المنافع عليهم، فكأنّ الكاتب يكتب لنفسه، إلّا إذا كانت له علاقات تُشيد به، من دون التعرّض لامتحان نقديّ، ليتعرّف على كتابه تحت مبضع النقد.
أمّا المتزاحمون في ساحة الرواية، فيُرافق أعمالَهم الضجيجُ، ولننتبه: هذا الضجيج يفرضها على القرّاء بوصفها الرواية المعتبَرة، وإذا لم تعجبهم، فيعتقدون أنّ حساسيتهم الروائية متخلّفة. بينما هناك في الظِلّ، وربّما في العتمة، هناك مَن يخترق عالم الرواية ويتربّع فيه بجدارة، لكن في الظلام، عسى يأتي النور يوماً، ويزيح تلك الأضواء المصطنعة في ساحة محتلّة من متسلّقين سرعان ما يتضاءلون أمام الصنّاع الحقيقيين للرواية العربية.