رمادُ ما كان في يومٍ ما غرباً

05 أكتوبر 2022
روي كوياس
+ الخط -

قصيدتا حرب

I. يأس

لكنِّي أيضاً نظرتُ من النافذة المفتوحة،
وَتركتُ لِعيْنَيَّ أنْ تتجوّلا عبر الأسطُح،
وما وراء الأفقِ الضَّبابيِّ
نَمَا لَمعانٌ مُوحِشٌ لضوءٍ ذي زُرقةٍ مُسْودَّةٍ
في ظلِّ عينَيَّ. وكنتُ أفكّرُ:
مَا هذه الخرائبُ؟ والريحُ المُتواصِلةُ الرَّهيبةُ،
التي كنتُ قد رغبتُ في يومٍ مَا أنْ أُطلِقَ لها العنانَ،
وقال صوتٌ: أنتَ، يا أعمى المُكابَداتِ،
"انْظُرْ إلى أوروبا تحترقُ، نهرُ القِمم الثَّلجيَّةِ؛ انظُرْ
إلى الحياة التي مرَّتْ. الليل الطويل الذي قد مضى،
وقد حدث ذاك الذي نعرفه
قد كان عندي، مثلَ جبالِ القُوقَازِ الهائلةِ...
آه أيها الحنانُ، أيتها الرغبةُ، أيّتها الموجاتُ غيرُ المُمِيتةِ في شيءٍ...
هي ذي أصداءُ الحرب، قلوبٌ مضغوطةٌ
ما نُسمِّيهِ يأساً.



II. أوروبا

فِي حضن الرَّبيعِ، منذ أعوامٍ طويلةٍ، في الشمس،
نُقاتلُ في معركةٍ واحدةٍ، المعركة ذاتها، واليومَ
بينما تحترقُ الشموعُ الخافتةُ التي تتحوّلُ إلى غُبارٍ
نصعدُ ذلك التلَّ وإذ ننظرُ إلى السماءِ مِنَ الغربِ
الذي نرى فيه أنفسَنا في ألفةِ ضوءٍ جديدٍ،
نظنّ ألّا أحدَ يمكن أن يلمسَ
النسيانَ المُعتِمَ الذِي فيه
نهدمُ الأوهام، دون أن نهمسَ لها
بمَلامِحَ مُمزقةٍ ودِماءِ حِقبٍ فِيهَا
غمرنا ذاتنا بشكلٍ غامِضٍ في عُزلةِ العالَمِ الكَدِرة.
في استفراغِ يومِكَ من القسوةِ المعزولةِ،
كلُّ شيء يتّسعُ لِمَشيبِ الطفولةِ،
كلُّ شيءٍ يتكيَّفُ مع الأحوالِ مُتَّبِعاً أنقاضَهُ،
مثل القبضةِ البيضاءِ لِكِتابةٍ لا مرئيَّةٍ،
رحمةٌ ضائعةٌ تنادي أمامنا
قبل التَّأملِ في حزنٍ لا ينطفئُ،
الاستماعُ الناعمُ لآبائنا من خلف الأكتافِ،
وهُم يهدهدون صباحاتٍ قديمةً لا تمضي،
مثلَ أغصانٍ شاخَتْ وهي تتشابكُ بِأذْرُعِ
حطَّابين وأوراقٍ قديمةٍ ونَدِيَّةٍ
في مُسْطَارِ أسلافنا، ومُسْطَارِ موتنا.
حيثما توجدُ مثلُ هذه الحياةِ، يخفقُ الموتى
بِإشفاقٍ لا ينفصلُ عن هذه العيونِ اللا تُضاهى
والتي تواصلُ تتبعنا دونما توقفٍ، والتي
تَمَّ نقْلُها، والتي سنقومُ بِبَثِّها،
عبر كلماتٍ صامتةٍ لأجلها تَمَّ تَخْدِيدُ
الأسئلةِ التِي تجعلُنا أتْقياء، ضَعْ علامةَ
الحنوِّ على نحن عليه، نَحْنُ نعْلَمُ بِمَا سوف نكونُ،
وبالذي سوف يُطْلَقُ عليه اسْمُنَا ولأجل أورُوبَانَا،
بالتحدّث إلينا هكذا عن خبزنا المُتاحِ هذا، 
ونحن نضع العلامات هكذا للقطرات الزرقاء للروافد،
والتي مثلما في العتبة المرتعشةِ لِحُلمٍ مَا
يتردّدُ صداهَا لِيَكْسِرَ اليومَ الذي لا يَعُودُ أبداً
والذي بدون استيعابٍ، بَلْ وَحتى بدون عَوْنٍ،
يَبكي تحت فراش كل العيون المعشوقةِ
في أيِّ جُزْءٍ مِنَ الرُّوحِ فِي العَالمِ، أوِ العَالَمُ
اللامُنْقَطِعُ فِي فَاصِلٍ، من المُتناهِي
لِهذا المرمرِ المحظُورِ اليوم وغداً،
يبعثُ جِنِّيَاتِ البحرِ الميِّتةَ لِلذكرى
ذات الظلالِ القريبةِ والبعيدةِ
النَّقِيقُ فِي الرَّعدِ الشَّاحبِ الذي ندُوسُهُ
ونحن نشربُ رمادَ ما كان في يومٍ مَا غرباً.


■ ■ ■ 

ليالي الجنوب

مضتِ الأصواتُ.
خرجتْ مُحلِّقةً من الشُّرفةِ، وتركتْهُم وحيدين.
الرجالُ يتهيَّبون مِنَ البكاءِ وحيدينَ.
لِذلك تُسْمَعُ الحكاياتُ المُدْهِشَةُ لِلآخرين.
حِينئذٍ يتسامحون مع الحُبِّ الفاشل،
يُحبُّ المرءُ أن يحنِيَ وجههُ مثل عناقيدِ العنب.
ضاعَ الرِّجالُ
كانوا عُزْلاً ومُحتجَزين
وبِرَهبةٍ من الليلِ
لن يتأخَّروا أكثرَ في التعبِ الأبيض لِلشَّباب.
في أياديهِمْ مِسبحاتٌ مُذَهَّبةٌ.
وتحت الأرْوقةِ
يتركونَ لِلنساءِ العابرات فِي شُمُوخٍ
أن ينظرنَ إليهم
في نهايةِ اللَّيلةِ
العليلةِ من حَرِّ الشُّرُفَاتِ،
يَستمعون بصمتٍ إلى قصائدِ كفافيس.
في نهايةِ الليلةِ،
تقعُ النساءُ في حُبّهمْ بجنون
ويُوهَبون أرواحاً لِحِمايتهم.


■ ■ ■


الإحساس بالزمن

أيُّ دافعٍ أدنى يَتحرَّكُ ويمنعُنَا من النسيانِ؟
بِأيِّ هِبَةٍ من الأرضِ نرقصُ مع الأمّهاتِ المُغنِّياتِ،
أين هي الدموع الحقيقية، فنحنُ لا نراها؟
بعد أعوامٍ من الاعتزالِ، مِن نيرانٍ ناعمةٍ وضوءِ شموعٍ،
قدْ مضتْ تلك وكانتْ رَجْعَ الأصواتِ بِسببِ الصَّقيعِ الذي
يبدو جميلاً في المُحيطِ المُتلاشي لِلمُدنِ،
أيُّ نعمةٍ نعترفُ أننا لمسناها بشكلٍ حاسمٍ؟
أتينا من بعيدٍ، من ممرّاتِ أسوارٍ ــ لن يقولَ أحدٌ،
وهو يستحضرُ نُقطاً مُحيِّرةً وخياراتٍ ملتبسةً،
بتكلفةٍ تنفصلُ عن ألم زمنٍ نحوَ آخرَ مُتَرَاكِب،
ليرى العليَّاتِ، حيثُ بدأنا أخيراً، مُنزويةً
ــ الغالبية ما زالت بعدُ تبتسمُ في الساحات، منذ سنوات عديدة ــ
ولتنتبه أن الطريق يتمّ بِسَحْبِ اليَدِ
مِمَّا ينزلق منه باستمرار، غير قابل لأن يُسْمَعَ، وهُوَ يتلاشى.
يصيرُ الزمنُ مُلغىً، هو زمنُ الجذوةِ فوق الماءِ،
غالبًا ما ننساقُ من الأكبرِ إلى الأجملِ،
مغمورين بضوضاءِ عُمقِ السُّلَّم،
وشيئاً فشيئاً بِضغط الحياة حتى الحجمِ الأخيرِ،
هذا الجزء الأشدُّ وُضوحاً بِشَكلٍ مُتزايدٍ أكثر من السِّيرَةِ،
والذي فيه فقط التنحّي، مثل صعودِ سُلَّمٍ،
هُوَ الجِذْرُ الأصليُّ لما فعلناه لمصلحتنا،
الفرح الذي يَنْبَثِقُ بعد الأسْرِ.

■ ■ ■


"السماءُ التي تُؤوي" أو المغرب

تعال، واخلط البعيد بالقريب، ومن بين كثبان الرمل تمضي وتأتي، 
في السماء المتلألئة، رمالٌ مكشُوطة من ضباب، 
واليدُ المُرتَعِشَةُ تنتظرُ، رمح ٌناعمٌ، ينهارُ
ويخفق باستمرارٍ بالرصاص، ومع طلوعه يلتفّ في الفجر.
الآن تُزيحُ السفينةُ صَالِبَ قاعدتِها، وسوف يُغَطِّيهِ الأصبُعُ المُمتدُّ،
تَتقدَّمُ الحصيرةُ، في ملحِ البَارودِ، وفي اليُودِ، وَفي وردةِ الشَّرقِ،
وهي تُلامسُ شفاهاً لا مُباليةً يُفترضُ أنها سوف تختفِي.
وإذنْ تعالَ كيْ تُجفِّفَ نفسَك في أجنحةِ المُستشفيَاتِ، وأنتَ تمسحُ صدغيكَ بالقطن، وتُقرِّرُ أيّ الأصواتِ هي المُجَامَلَةُ الأشدُّ تهذيباً،
تصل النقطة التي تتمدَّدُ فيها الرؤيةُ بلا أيِّ مُحيطٍ،
يأتي لِلسَّيْر واحِداً جنبَ الآخَرِ دون أن ينتبهَ إلى حُضور الواحدِ والآخرِ من مآقي العينِ،
يأتي بالطريقة ذاتِها فِي التدخينِ على شرفةٍ معَ غُرباء، يأتي لِيشربَ ماءً حامِياً، وينفُضَ عن ذاته الحشراتِ الزَّاحفةَ،
ويرى أليافَ الحَرِّ تنزلقُ على مُنحدراتِ الوصولِ مع لذَّة الرَّملِ المُمتصِّ عبر الجلدِ. تعالَ إذنْ، ومَرِّرْ يدكَ على زِلِّيجِ المَخازِنِ، تعالَ وَامْشِ معي عبر السَّاحاتِ مثلما في نُزهةِ صيفٍ، تعالَ لكي تُغَنِّيَ ليلةً بعد ليلةٍ طريقَ السماءِ بلا حدودٍ، تخيَّلْ طريقكَ مُضاءً بِالحريرِ الذي نتسرْبَلُهُ،
الحافةُ بِلَونِ النَّارِ التي تبدأ بِتَمييزِ البُرْنُسِ،
مِنَ الأنقاضِ المغربيَّةِ مُتغيِّرةِ اللَّونِ والبعيدةِ.
وَبِفضلِ الانتِقالِ من طاولةٍ إلى أخرى في قاعةِ الألعابِ،
مع مهارةِ التقدُّمِ خطوةً نحو جِدارٍ،
يأتي كَيْ ينحتَ أثرَ الطينِ في العيونِ وفي خطواتِ بُستانِ النَّخيلِ،
لأنكَ بِدُونِ تبريحٍ سوف ترى كيف صرتَ غريباً، وكم صارتْ قُبَّعَتُكَ خفيفةً، والتي سيقولون عنها إنها فِناءٌ في الغُبارِ،
مَجموعةُ حركاتٍ، الخَطُّ الساخنُ، الكَسْرُ،
العلامةُ الزَّائلةُ والتَّائهةُ لِكشَّافي الغُيوبِ.


* "السماءُ التي تُؤوي"، أو "السماء الواقية" (1990)، عنوان فيلم لـ برناردو بيرتولوتشي، صُوّر في المغرب، وهو مقتبس عن رواية لـ بول بولز يدور جزء من مجرياتها في الصحراء المغربية.


■ ■ ■


كلُّ الجمالِ الممكن

نتجرّأ على هذا الجمال، التوازن - العُري،
كما لو كنّا قد وُلدنا من جديد ومائلين
نمشي ــ دونما وِجهةٍ بأنفاسٍ عذبةٍ،
لو أنَّ جسداً برزَ بوجهِهِ الوَاثِقِ،
دون أن يتهيَّبَ ولا حتَّى سُباتَهُ المعكوسَ،
دون أن ينسى أن الموتَ كافٍ للتَّودُّدِ إلينا،
ريحٌ وَاهنةٌ تلمسُنَا في لامبالاةٍ،
في جهةٍ أخرى أو هُنَا، مثلَ اسمٍ أو بدايةٍ أخرى،
من أجلِ العودةِ أو الرَّحيلِ النهائيِّ،
فلنبحثْ عن نظامٍ لِلعَالَمِ.
في الحياةِ كلِّها يتغيرُ الصوتُ ــ يتغيرُ الصمتُ ــ أكثرَ
رشاقةً، مثلَ قِبابِ كاتدرائيةٍ روسيَّةٍ،
وثمَّة مَن يمرُّ ويأخذُنَا على حينِ غِرَّةٍ مُعْوزِينَ ولا يرجعُ أبداً،
وتمضي الأشجارُ في دُنُوِّها فِي جزائرَ جِدِّ عاليةٍ،
ولا شيءَ يُنتظَرُ منها سوى ورقةٍ ضئيلةٍ
أو عُنُقِ نورسٍ تمَّتْ مُشاهدتُهُ في مَصَبِّ النهر.
هكذا يتم بلوغُ الوِجهةِ، عبرَ هذا النِّظامِ غيرِ الدَّقيقِ،
على إيقاع ما يغدو معنا وبيننا هادئاً 
مع الضوء الذي يتحوَّلُ بعد اجتيازِهِ لِلزُّجاجِ ثمَّ ينسحبُ.
ومَعَ ذَلِكَ ترجعُ الأصواتُ نفسها إلى البيتِ في يومٍ آخرَ،
سوف تبدو الثيابُ في النوافذِ، وهي تبلِّلُ العينين،
سوف تُسكتُ أعماق المُنتزّهاتِ والشَّمعداناتِ في الضبابِ،
وسوف تشعلُ النساءُ المصابيحَ في الأحياءِ
وسوف تصطفُّ ساحاتُ المدنِ كلها عندَ العشيَّاتِ.
يجب أن نُحافظَ على هذا التَّوازنِ ــ سلامٌ بعد الثلجِ،
ينبغي ربطُهُ بِجهةٍ ما من شبكةِ الحدودِ، 
وفي التحوّلِ من الخطِّ المُنَقَّطِ نحو المنحوتِ
ثمّة ما يُمَيِّزُ النورسَ المتمدِّدَ، وهو يُحدقُ فينا بِثباتٍ، على مرمى حجرٍ من اليدِ،
مُنتبهاً لِلريحِ المُواتيةِ للنزُولِ أو بالكادِ مُتردِّداً،
هنالكَ نَنتبِهُ إلى ما يُعيقُنا ــ إذ أننا على جهلٍ بِالمصدرِ،
وأنهُ من المُمكنِ أن نعرفَ أكثر ممّا يُمكنُ أن يعرفه أحدٌ
في تلك اللحظة التي نصلُ فيها لأبعدِ مدىً يمكنُ أن نبلغه.
إنِ افترضنا فوق الخرائطِ مساراتٍ قد تمَّت تغطيتها من الأعلى،
ونرجع ثم نعودُ بشكلٍ نهائيٍّ إلى الرحيلِ
وكلّ مُنطلقات الرِّحلةِ بلا عودةٍ،
في الأوجِ مع أجنحةِ السباقِ أيضاً، لِلمُضِيِّ نحو الأعالي،
إمّا أن يطفُوَ الفلِّينُ، أو أن يكونَ منقارُ الورقةِ مُسَطَّحاً،
إذ نعتبرُ الجمالَ يُدنينَا بِشكلٍ أقرَبَ.


■ ■ ■


موانئُ ووجهاتٌ
(مع جان آرثر رامبو)

أيَّةُ سفُنٍ قد رأيناها راسيةً على امتِدادِ
الهامشِ المنحوتِ، ونحنُ نتخيَّلُ أننا يمكنُ 
أن نُبْحِرَ على متنها؟ أيّةُ أشياء غيرِ قابلةٍ للوزنِ
تدفعُنا إلى الإخفاقِ هُنَا، في نقطةِ التَّعَرُّفِ 
عن ظهرِ قلبٍ على العلاقةِ بين مناطقِ الصَّيدِ بِالشِّباكِ وبين الرُّؤُوسِ المُحترقةِ،
والأوتادِ المُطَقْطِقَةِ فوق المِنَصَّاتِ، المُعَلَّمَةِ بِخِرَقٍ من قماشٍ،
أو هَامِشِ ضَبْطِ التَّوقِيتِ المحلّي لِحركاتِ الرُّسُوِّ؟
بعد العديد من فروع الأنهار وحقول الهليون، بعد اسمِ ما كان يُعتقد أنه عادلٌ ومنتشر،
بلا بداية ولا مجد ولا حكمة فانية، ثمّة مكانٌ لامتصاص الماء من السماوات الساكنة،
تحَسُّسِ حجابِ الحِدادِ في الرَّسْغِ، الشُّعاعِ النَّيْلَجِيِّ، لِتحريفِ
السِّتارةِ ليس لَكَ إلّا أن تُطِلَّ من النَّافذةِ، وأن تعثُرَ على خدْشِ النوارس، فوق الهياكلِ المُهدَّمةِ، غَيرِ القابلةِ للانفعالِ،
والتعرُّف على الجديد، وعلى المُشوَّهين: أن تستسلمَ، تتنفّسَ،
تستنتِجَ أننا فقط نرسُمَ تخطيطاً أوّلياً لِلعَوْدَاتِ المعاكسةِ،
أن تتركَ نصف الحياة في كلّ الجهاتِ، الأرض المُمِلَّة ذاتها
لِمَا تَمَّ عيْشُه وامتلاكُهُ، وأيضاً 
قبولُ السِّمة الأخرى المُقَنَّعةِ في صورةِ الخوفِ.
ورغمَ الارتيابِ، والتعرّض لأهوالِ القَدَر،
ندركُ أنه قد تحدَّدَ للجميع، دونما استثناءٍ لا يُتخيَّلُ،
أجلٌ للاعترافِ عبر أيِّ لا دِقَّةٍ أو صُدفةٍ،
وتحت أذى الهويَّةِ المُبتذلةِ، وجدنا أنفسنا قد وصلنا إلى حيثمَا 
ينتَكِسُ الزمن ويُعادُ
تشكيلُهُ ــ وجدُّ قليلٍ، مثل البقعةِ في العيونِ التي تُعاني من انْحِسار النَّظر،
لم يتبقَّ أكثر من خيوطٍ على أرضِ مِنَ الحصباء، علاماتٌ
مُزبِدةٌ ومُعرَّضةٌ لِلابتهالاتِ العارية والحيوية
والتي بسبب التقدّم الكبير داخلياً عبر الذاكرة،
ينتهي بنا المطافُ بِجمْعِ قِطَعٍ والحدِّ الأدنى من الصَّابورةِ،
لكي نقولَ ذلك كما اِتُّفِقَ، أيّام الحظ السّعيدِ، وهي تقعُ على حَدِّ نَصْلٍ
مُنْسَكِبَةً وقد طبعتْ في الشمسِ الوجهَ المُلوَّنَ للنِّسيانِ.
وهكذا في كلّ مرة نُنقل فيها على متن السفينة، على صوت صفير الرافعات، ونحن نَرفعُ مَخْزَنَ الطُّرُودِ،
أناسُ اليَابسةِ سوف يأتُون ساعةَ يكونُ الطُّعمُ في الصَّوامعِ،
وعلى الأرصفةِ، وهو ينتفخُ في مُنتصَفِ النَّهارِ فِي البيوتِ الزُّجاجيةِ،
عبر الحَكيِ بِحكمةٍ بالغةٍ عن التُّخوم والهياكلِ الخشبيَّةِ للبيوتِ الصغيرةِ،
منَ المُؤكَّدِ أننا نعتبرُ اختفاءَ مُسَرْنَمِ إثيوبيَا أمراً محسوماً وحقيقةً لا مفرَّ منها.


■ ■ ■


بداية ونهاية

في أيّة لحظة، في البداية وفي النهاية، وخلال الحياة بكاملها، جاثينَ من كلّ ألم،
بقينا بلا غدٍ وبلا بداية، ملفوفين في قماط العُمر والبُعْدِ، منهوبين في الأكذوبة،
ببساطة نُلقي رملاً في أعماق فناء الاستراحة، نخدش الرمل المدعوم بفهمنا، ونحن نُبرز تميمةً ضدّ العودة المستحيلة. ليست لدينا هدنة، لا يمكننا أن نعود، ودونما ضوضاء نبتعد إلى حيثما نُنادي من بعيد في الهواء قليل الكثافة، ما بين الأغصان، أغصان أشجار الموز، أشجار الأمس.
وجوه اختزلت إلى غبارٍ أبيضَ بلا شكلٍ، في عددٍ لا يحصى من التشابهات مع الموت.
نذيرُ خراب، هو نذير الانحطاط الحميم لكلّ شيء، مُدركٌ جيّدٌ لِلَّايقين كعلامة مكشوفة للذاكرة،
التي يسحقُ كلُّ ذراعٍ للزمنِ خُدْعتَها، ويحرمنا من أدنى انفصال عن الهجر، لأننا نوجد من أجل لا شيء، وفقط ننتفض وننتفض،
إنْ كنّا لم نؤمن بما نعتقد أنه لم يحدث، ولم نستوعب القبول العادل لحياتنا.


■ ■ ■ 


وادي الشيلم الأبيض

لم تعد ثمّة حيوَات، ولا بداية لها لأجل أيّة غاية،
ولا حتى الحّب سيترك لنا ابتسامة متزلّفة،
لا الماضي سيترك تصدّعاتٍ تُلَمِّحُ إلَى الحاضر،
ولا في زمني سأجعلُ مصيري مُسْتَخِفّاً،
ولا حتى الإله سيلمسنا في أرض لا أحد،
ولن أمُرَّ أمامَه دون أن أتذكَّرَ، لن أمُرَّ عليه.
الأملُ البعيدُ تَرَكَ لنا وُعوداً،
هالةَ الكتفين وهي تنتشر فوق الرمال الدافئة،
وكلَّ نفَسٍ كان الأخير دون أن نعلمَ ذلك
ــ جِدُّ ضعيفٍ حَدَّ أننا لا ننتبهُ أنه ينطفئُ،
تتبدَّدُ أنفاسُهُ المتردِّدَة،
ويضيعُ الضبابُ الناعمُ لكي لا أكونَ
سِوَى صوتِ وجهٍ تَائِهٍ.
ماذا سيحلّ بنا، لو كانت حقيقة وحيدة فقط هي الحقيقة 
فحياتنا فيها تُمارَس، مظهرٌ يحرس فحسب،
لأجل إيقاف الضوء أثناء حركته، وفراغِ الحركةِ،
لكي يتِمَّ تنهُّدُ كُلِّ اسمٍ قريبٍ، لم تسبق رؤيته؛ مذبوحٌ
ما سيكون ــ ما سيبلغ أن يكونَ،
رغمَ أنَّه لحظيّاً نائمٌ في شَيْءٍ آخرَ،
مثل تخيُّلِ الشمس في حقلٍ لأشجارِ الزيتون
أو العذوبَةِ سريعَةِ التَّلاشِي التي تتأمَّلُ،
رغم أنه بالحبِّ، والاستماع إلى شخصٍ مَا قريبٍ، قريبٍ من المِرآةِ،
وإنْ كانت القبلة مجموع القوة، مثل ابن.
ــ ماذا سيحل بنا؟
والدوالي تنحدر، منذ زمنٍ طويلٍ تنحدر،
ونصمت ونحن نفكّر حقّاً في الزمن الذي سيأتي.
ويشير والدي إلى بساتين الزيتون المحاصَرة بالأسوار والجذوات، 
وصوتك يهرب من المساء حتى الليل عبر نفق.
يقول والدي، والكلاب في الخلف، إن الطريق ينتهي هنا،
يكرّر والدي أن الطريق ينتهي هنا والكلاب في الخلف
وكلّنا نُحبّ العالم، وما يحدث فيه في كلّ نقطة،
وأصل كلّ واحدٍ، الحضورَ والوداعَ
كلّنا نُحبّ العالم الغارق، القمّة في الجهة الأعلى، السرَّ
كلّنا نخشى التنفُّسَ غير الضار،
ساعتَنا، المرح الضبابي والبخور،
الانعطافَ الذي ها هو أمامنا حقّاً،
الذي حقّاً أمامَنا يأتي ليُحدِثَ رَنيناً.


* ترجمة: خالد الريسوني

بطاقة
Rui Cóias شاعر برتغالي من مواليد 1966 في لشبونة. درس القانون في "جامعة كويمبرا" والفلسفة في "جامعة لشبونة الجديدة"، ويعتبر من أبرز شعراء جيله ومثقفي أوروبا الذين يحملون نظرة مختلفة وإيجابية نحو الإرث العربي للثقافة الأوروبية. من أعماله: "وظيفة الجغرافيّ" (2000)، و"نِظام العالَم" (2006)، و"أوروبا" (2016/ الغلاف). تُرجمت كتبه إلى العديد من اللغات، كما نشر أعمالاً مزدوجة اللغة، مثل "طبيعة الحياة" (بالبرتغالية والفرنسية، 2014)، و"دعِ الصمت" (بالبرتغالية والهولندية، 2018).

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون