ركن المصمّم: مع فرح فياض

01 سبتمبر 2022
فرح فياض
+ الخط -

تقف هذه الزاوية مع مصمم غرافيك في أسئلة حول خصوصيات صنعته ومساهماته في الثقافة البصرية للإنسان العربي. "نملك إرثاً بصرياً هائلاً، ورغم ذلك تبني بعض الجامعات العربية برامجها على أسس مدارس غربية في التصميم"، تقول المصمّمة اللبنانية في حديثها إلى "العربي الجديد".


■ كيف بدأت حكايتكِ مع التصميم الغرافيكي أو كيف أصبحت مصممة؟
اكتشفت شغفي بالخطّ العربي والطباعة الحريرية أثناء دراستي التصميم الغرافيكي في "الجامعة الأميركية في بيروت" وفور تخرّجي عام 2012، التحقتُ بدروس خطّ مع الأستاذ مختار البابا، الذي منحني الأُسس للتمعّن في الخطّ عن كثب، وهذا ما فتح لي أفقاً للتعرّف على مؤسّسات وأفراد من مدارس فكرية مختلفة.

■ هل تعتقدين أن هناك لغة أو هوية تصميمية عربية خاصة، تعكس ثقافات وهوية المجتمعات العربية اليوم؟
لا أؤمن بوجود هوية تصميمية عربية موحّدة، ولكنّ العنصر الثابت في مختلف الهويات هو اللغة. استخدام هذا العنصر يختلف بناءً على مبتغاه، فبالتالي، كي نتمكّن من تقسيم وتصنيف التصميم، علينا أن نأخذ بعين الاعتبار نوعية العمل. كما أراها، هوية الإنتاج البصري ــ في المجال التجاري مثلاً ــ موحّدة في كافة أنحاء العالم العربي. أمّا الإنتاج البصري الثقافي والفني فيحافظ أكثر على مميّزات وخصائص البلد الذي يُنتَج فيه. أودّ أن أضيف أهمّية استذكار وتطوير التاريخ البصري المشترك في العالم العربي، الأمر الذي يقلّص الشرخ بين البلدان ويجعل التصميم مساحة مشتركة.

■ هل يمكن تشبيه التصميم بالعمارة، بمعنى أننا نسكن اليوم في فضاء يصنعه المصممون؟
نعم، يمكن تشبيه التصميم بالعمارة، إذ إنه يبني فضاءنا البصري. وفي التصميم كما في العمارة، يحدّد العنصر الطبقيّ نوعه وبالتالي، ليس هناك فضاء موحّد عابر للطبقات نعيش فيه كلّنا سوياً.

اللغة هي العنصر الثابت في مختلف الهويات التصميمية

■ كيف تنظرين إلى التصميم الغرافيكي، وهل تعتبرينه فنّاً أم صنعة، ولماذا؟
أرى أن التصميم الغرافيكي يجمعُ طيفاً ما بين الفن والصنعة، وفقاً للشبكات التي تحدّد خلفيات العمل. تتألّف تلك الشبكات من الجهات التي تكلِّف العمل، والجهات التي تبدع المضمون، ومَن يصمّم، ومَن ينتج، والجمهور المتلقي. بناءً على تشكيل هذه الشبكات، يمكننا تحديد ميول العمل الغرافيكي، والذي لا يقتصر عادةً على أيّ من الفن أو الصنعة. 

■ ما هي أبرز التحدّيات التي تواجه عملك كمصممة؟  
الوقت. سياق الوقت في التصميم الغرافيكي مختلف، حيث إنه لا يتزامن مع مفهوم الوقت عامّةً. ابتكار تصميم معيّن قد يتطلّب ساعة، لكن فعلياً هذه الساعة تختصر سنوات من الدرس والتمرين والخبرة، وهذا أمر لا يؤخذ بعين الاعتبار عند المتلقّي. 
وعدم التزامن في مفهوم الوقت يَظهر أيضاً بشكل معاكس، إذ قد لا يقدّر المتلقّي كمّ الوقت والمجهود اللذين تتطلّبهما بعض الإنتاجات التي تبدو بديهية. مثلاً، تصميم كتاب مكوّن من نصّ وصور قد يبدو أنه لا يتطلّب جهداً كبيراً، لكن في الحقيقة يصمَّم الكتاب صفحة بصفحة، لخلق تناسق بين أنواع النصوص وعلاقتها بالصور. هذا يستنزف وقت المصمّم.

■ المسؤولية الاجتماعية للمصممة، كيف ترينها؟ 
بنظري، تكمن المسؤولية الاجتماعية عند المصمّم في الإيمان في أن التصميم يمكنه أن يلعب دوراً أساسياً في نشر الفكر. طريقة تجسيد الفكرة ضمن عمل ملموس، سواء على شاشة أو على ورق، تحدّد هوية مَن يتلقّونها وعددهم. المضمون النصّي والفكر التقدّمي ليس كفيلاً، وحده، بإيصال الفكرة، فعربة التصميم هي التي تضمن وصول الفكرة الى المتلقي بشكل فعّال. لذا تصبح القدرة على خلْق عمل واعٍ اجتماعياً ومشاركٍ سياسياً، مسؤوليةً كبيرة على المصمّم. كمصمّمين، لدينا القدرة والمهارات على إنتاج موادّ بصرية يمكن مشاركتها ونشرها على نطاق واسع، وهذا ما يساهم في بناء العالم البصري، والسياسي والاجتماعي أيضاً.

الصورة
من تصميمات فرح فياض
من تصميمات فرح فياض

■ كيف تعلّقين على غياب ظاهرة المصمم الملتزم بقضايا مجتمعه، واكتساح ظاهرة المصمم التجاري أو ذلك الساعي إلى العمل لصالح الشركات والمؤسسات الفنية الكبرى؟
لا أرى أننا مضطرّون إلى تصنيف المصمّمين بين ملتزمين بالقضايا الاجتماعية ومهتمّين بالمجال التجاري. على سبيل المثال، لقد قمت، كمصمّمة، بالعمل ضمن المجال التجاري أحياناً، لأنّني بحاجة إلى دخْل، لكنّني أحاول قدر المستطاع أن أعمل مع المؤسّسات الأكثر وعياً ونشاطاً اجتماعياً وسياسياً. لذلك لا يمكننا أن نطلب من جميع المصمّمين أن يكونوا نشطاء، والبعض ببساطة لا يهتمون بهذا الأمر، ولا أعتقد أنه يجب أن يكون شرطاً محدِّداً لأي شخص في ما يتعلّق بكيفية رؤيته لعمله. هناك حاجة إلى جميع أنواع المصمّمين، ولا أعتقد أنه من الضروري تماماً المقارنة بينهم.

■ ماذا أبقت برامج التصميم الإلكترونية للعمل اليدوي، مقارنة بالسبعينيات والثمانينيات مثلاً؟
أعطتنا تكنولوجيا التصميم الرقميّ الكثير، لناحية الخيارات والتنميط والنسخ والسرعة. لا يمكنني أن أتخيّل العمل من دون هذه التكنولوجيات، لكنّني، في نفس الوقت، حين أعمل على الخطّ العربي، دائماً أبدأ بالحبر على الورق، ثم أنتقل بعدها إلى الشاشة. عند استخدام الجسد لابتكار شيء ما، يصبح تجسيد الأفكار والمفاهيم أكثر مباشرة، ثم يمكن للبرامج أن تدفع هذا التجسيد إلى ما هو أبعد، وأن تساعد في التجريب في العناصر والمؤثّرات. برأيي سيبقى لكِلتا الطريقتين مساحة ومجال في عالم التصميم دائماً. 
لا يمكننا أن ننكر أنّ الشاشة والتصميم الرقمي قد أخذا الكثير من درب الطرق اليدوية والأغراض التصميمية المادّية، بالأخصّ في المنشورات الدورية، مثل الجرائد. أعتقد أنه عندما يتعلّق الأمر بمضمون يومي وقصير العمر، ربما تُوفِّر علينا الشاشة الكثير من الورق. مرّت فترة كثُر فيها الحديث عن "نهاية الطباعة"، لكنّني لا أعتقد أنّ هذا الأمر سيحصل يوماً ما. هناك عناصر مادّية أساسية في بعض الأشياء، ولا يمكن للشاشة والبيكسل أن يحلّا محلّها ببساطة، خصوصاً في المجال البصريّ. يليق بكتاب عن التصوير أو العمارة مثلاً أن يكون مطبوعًا على ورق، وأن يصبح غرضّاً مادياً يُنتقى ويُجمع. 

ساعة التصميم تختصر سنوات من الدرس والتمرين والخبرة

■ كيف تقيّمين تعليم التصميم الغرافيكي في الجامعات العربية؟ نلحظ غياب معاهد خاصة بالتصميم وحتى نقصا في كليات التصميم، ما السبب في رأيك؟
أعتقد بأن الأمر يتعلّق بالبلد والظروف التي تحدّد الأفراد وقدرتهم على الوصول إلى برامج مختلفة للدراسة التصميمية. نملك إرثاً بصرياً هائلاً، وأعتقد أن إحدى مشاكلنا تكمن في أنّ العديد من الجامعات تبني برامجها التعليمية على أسس المدارس الغربية في التصميم، وهذا ما يخلق شرخاً بين ماضينا وبين ما يُنتَج في التصميم المعاصر. ثمة مشكلة أخرى تكمن في أنّ الفن والتصميم لا يُعاملان في بلادنا بنفس أهمّية المجالات الأخرى، لذا لا يُصَبّ الاهتمام على بناء مراكز تعليمية تختصّ في الفن أو التصميم وحدهما. مع ذلك، بدأت جامعات عدّة في لبنان والأردن وفلسطين ومصر، بالاهتمام بشكل أكبر برأب هذا الصدع، إذ يعمل في هذه المؤسّسات التعليمية العديد من الأساتذة الذين يسعون إلى الابتعاد عن التصميم المرتكز على أوروبا، وإلى تحرير التصميم من الاستعمار بطريقة أو بأخرى. لكنّني أعتقد كذلك أنّ أهمّية التصميم أصبحت واضحة بشكل أكبر في جميع المجالات، لذا آمل أن يتمّ التركيز عليه أكثر في قادم السنين، وإرساء فكرة أنّ التصميم ليس محض ديكور أو زخرفة، بل إنّه يحمل في طياته قوّة كبيرة.

■ ما هو آخر تصميم قمتِ به؟
آخر مشروع عملت عليه كان جزءاً من عمل مجموعةٍ شاركت في تأسيسها في أمستردام، تُدعى المجموعة "كلاب" وتضمّ خمسة أشخاص من لبنان وفلسطين وسورية، وهي منصّة للموسيقى والتصميم، تسعى لدعم المسارات المِهنية لموسيقيين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ولتسهيل التبادلات بين المنطقة وأوروبا. عملت بالتعاون مع تال، صديقتي وزميلتي في المجموعة، على تطوير الهوية البصرية لـ"كلاب" وتصميم بعض المُشتريات التي تحمل هويتنا البصرية.

الصورة
عمل لفرح فياض
عمل لفرح فياض

■ هل هناك تصاميم قمتِ بها وتندمين عليها؟
لا أعتقد أنّني أندم على أي مشروع من ناحية التصميم نفسه، لكنّني أندم في بعض الأحيان على القبول بالعمل مع أشخاص دون معرفة خلفياتهم السياسية بالكامل، وطريقتهم في التعامل مع الأشخاص الذين عملوا معهم سابقاً. 

■ يوصَف المصمّمون بأنّهم أصحاب شخصيات "صعبة" و"زئبقية"، أي يصعب التعامل معها. هل توافقين على هذا وما هو تفسيرك، وما هي نصيحتك أخيراً لمن يتعامل مع مصمم؟ 
ربما يكون بعض المصمّمين من أصحاب هذه الشخصيات فعلاً، لكنّ ما يحدّد صعوبة أو سهولة العمل بشكل أهمّ، في رأيي، هو العلاقة بين المصمّم والشخص أو الجهة التي تكلّفه بالعمل. أحياناً، يريد الزبائن أو العملاء تنفيذاً حَرْفياً لفكرة معيّنة، لكنّهم يخبرون المصمّمين بأن لهم الحرّية المطلقة، ما يخلق الكثير من التوتّر، ويُشعر المصمّم بأنه غير مؤتمن على القيام بالعمل في الطريقة التي يراها مناسبةً. بعد سنين عديدة من تكرار هذا الأمر، قد يُنظَر للمصمّمين بالطبع على أنهم من أصحاب المزاج أو الشخصيات الصعبة، لكنّنا في الحقيقة لا نريد إلّا أن يَفهم مَن يعمل معنا أنّ المشروع الذي نعمل عليه يصبح مشروعنا أيضاً، وأنّ حياتنا المِهنية ترتكز بالكامل على البورتفوليو الخاصّ بنا. ما أنصح العملاء به هو أن يحاولوا العمل بشفافية مع المصمّم، وأن يتحلّوا بالقدرة على التخلّي عن الفكرة المسبقة التي أتوا بها، وأن يثقوا بأنّ المصمّم أو المصمّمة هما على دراية بما يقومان به. 


بطاقة
مصمّمة غرافيكية وفنانة طباعة من مواليد بيروت عام 1990. حاصلة على ماجستير في الفنون الجميلة من "معهد ساندبيرغ" في أمستردام، وتقيم حالياً بين بيروت والمدينة الهولندية. ترتكز معظم أعمالها على الخطّ العربي وتصميم منشورات مزدوجة اللغة. عضوٌ سابق (2012 ــ 2016) في "استوديو سفر". أسّست، مع سليم سمارة، مركز "نايس نايس برينتس" للطباعة (2018)، وأشرفا على عدّة ورشات عمل، لتصبح الطباعة الحريرية ركناً أساسياً في ممارستها. كذلك أسّست "مختبر الخطّ"، وهو منصّة للأبحاث والتجارب في مجال التخطيط، وخصوصاً للّغات غير اللاتينية. رُشّحت عام 2020 إلى القائمة النهائية من جائزة "جميل: من الشعر إلى السياسة"، وعُرض عملها المشارك بالجائزة في "متحف فكتوريا وألبرت" بلندن.

وقفات
التحديثات الحية
المساهمون