رفيق مظفّر،
قرأتكَ أوَّل مرَّة خلف ماكينة الخِياطة، عصرَ يومٍ قائظٍ، وكنتَ أوَّل مَن أُصادفُه في عالمٍ موبوء، فكانت مباركةً هي الصُّدفة التي قادتني إليك.
قرأتُ قصائدكَ فلم أفهم الكثير، كنتَ عَصيًّا على صبيٍّ يطرق باب الشِّعرِ على استحياء ويخاف منه. لم تكن تلك اللّحظة سوى ظِلٍّ لقطرةِ ماءٍ من بحرك. صادفتُكَ كثيرًا، وتعرَّفت عليك مِرارًا، وكنتُ أجدُكَ في كلِّ نوبةٍ من نَوبات الحُزن أو الوَجْد. "مو حزن... لكن حزين"... نشيدٌ أحفظه لأنّ ما أريدُه ليسَ أكثر من قصيدةٍ تفضحُ ما بداخلي دفعةً واحدةً، وتُشرّع الباب لآهةٍ حبيسةٍ.
آهاتُكَ كثيرةٌ يا رفيق، وعندي مثلها كذلك، لكنَّك كنت تتولّى المهمّة في كلِّ مرّة.
ديوانُك "الرّيل وحمد" حين وجدتُه على "بسطيَّةٍ" في شارع المتنبّي قبل أعوامٍ طويلة، هو أوّلُ ما حملتُه وتباهيتُ به هناك، فصارت صداقتُنا العابرة للمكان والزمان وطيدة. على ورقته الأولى كتبتُ اسمي بجانب اسمِك حتّى قبل أن أدفع ثمنَه للبائع، هكذا شعرت كأنَّني أُجاورُ اسمكَ، ثم صرتُ أُجاورُ اللوعة العراقيَّة في صوتكَ وأنت تغنّي: "هضيمة تحنّنْ الشّامتْ عليّه".
يبحثُ بعضٌ عن هفوةٍ في قصيدةٍ صَرْخَتَ بها، وآخرونَ منشغلون بمنفاكَ في بلدٍ لم يكن في قواميسِ محطّاتك الكثيرة، وأبحثُ فيكَ عن الإنسان العراقيّ في صدقِه الخالص ونسختهِ الفريدة، عن الصوفيِّ في غربتهِ وعن الثائرِ في مِحنته، وعن العاشقِ في بُعدهِ وعجزه. غريبًا لم تَمُتْ من كلِّ قلبكَ كما أردْتَ: "لكنَّها بلادي... لا أموتُ من القلبِ إلّا فيها"، وغريبًا في بلادك التي وصلتَها، وقد تحقَّقت نبوءةٌ قلتها ذات يوم: "يجي يوم نْرد لهلنا"، فعُدتَ.
لم يكن موتُكَ قبيحًا كما قلتَ: "قبيحٌ أن أسير إلى الموتِ بدون عيونٍ عراقيَّةٍ في الشَّبابيك". كنتَ تسير إلى محطَّتكَ الأخيرة، والشَّبابيكُ تكتظُّ.
* شاعر عراقي من مواليد 1996