رسالةٌ إلى ناقد شابّ

02 يوليو 2024
من معرض في ساو باولو حول كتاب "الأمير الصغير"، تشرين الثاني/ نوفمبر 2009 (Getty)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- الكاتب يسترجع ذكرياته كطالب في كلية الآداب، معبرًا عن شغفه بالنقد الأدبي وحلمه بأن يصبح ناقدًا يتعامل مع النصوص بدقة وشغف، مؤكدًا أن هذا الشغف يتحول إلى حاجة ملحة تستمر مع الإنسان طوال حياته.
- يناقش النص أهمية النقد الأدبي كتمرد على نظرية الأدب وسعيًا لخلق مفاهيم جديدة للأدب، مستشهدًا بتجربة الرومانسية الألمانية وحوار من كتاب "الشجرة والمنبع" لميشيل شارل لتوضيح الجدية في النظر إلى النقد الأدبي.
- في ختام الرسالة، يتأمل الكاتب في الدور المعقد للنقد الأدبي، مشيرًا إلى ضرورة أن يكون الناقد جريء ومتمردًا في تحليلاته، ويؤكد على أن النقد يجب أن يسهم في تشكيل وتطوير الثقافة الأدبية، مع التأكيد على أهمية التمييز والفصل في عملية النقد.

صديقي العزيز،

عادت بي رسالتك إلى ما كنتُ عليه منذ أربعين سنة. كنتُ طالباً في كلّية الآداب، وكانت تلك السنوات من عمري سنوات الاحتكاك بالروايات والقصص والأشعار وكُتب النقد والمناهج. كنتُ أريد أن أفعل كما يفعل النقّاد بنصوص الأدب. أُمسكها بين يدي وأستمرّ في الحفر بمثابرة وجهد، مثلما يفعل نَقَّارُ الخشب بخشب الأشجار. لم أكن أعرف كيف أُصبح ناقدا يفعل بالكتب ما يفعله نقّار الخشب بالأشجار. لكن تأكّد أن ما يجعلك تتعلّق بشيء هو حين يصبح حاجة ملحّة بالنسبة إليك. وحين تشعر بأن ميلك نحو النقد أصبح حاجة ملحّة، فحينئذ لن تفارقك هذه الحاجة إلى آخر يوم في حياتك. وهي غالباً ما تظهر في شكل استعداد مبكّر لا شيء يُضعفه. ربما ستسألني: ما هو مصدر هذا الاستعداد المبكّر الذي يشكّل قاعدةً صلبة لانطلاقك نحو ممارسة النقد؟ أظنّ الجواب هو: الميل نحو الفحص، فحص الأشياء وفرزها وتمييزها عن بعضها. كما تقف وراءها، دون شكّ، رغبتك الدائمة في أن تسأل المؤلّفين هذا السؤال الصعب: لماذا تكتبون؟ كما أنّ لهم الحق في طرح نفس السؤال: لماذا اخترت أن تصبح ناقداً؟

لنقرأ هذا الحوار القصير:

- لماذا تكتب؟ يسأل الناقدُ الكاتبَ.

- وأنت؟

- لكن أنت الذي بدأت يا عزيزي.

- أريد أن أتأكّد، يقول الكاتب وهو يحلم.

لقد قدّمتُ لك هذا الحوار القصير من كتاب "الشجرة والمنبع" لميشيل شارل، لأنه رمزٌ ينتمي إلى مرحلة كان يُنظر فيها إلى النقد بجدّية بالغة، إلى درجة أنه أُسندت إليه صفة المبدأ. إنّ الحاجة الملحّة عليك، لكي أجيبك عن سؤالك الخفي، تحدث داخلك كما لو أنّها فعلٌ لا رادّ له. لقد أصبح النقد، بالنسبة إليك، في مقدّمة كلّ الحقول الأدبية والمعرفية. فأنت لا تريد أن تُصبح ناقداً لكي تدرس، وتفحص كما سلف، الروايات والأشعار، بل لأنّك تطمح إلى خلق مفهوم للأدب. وهذا ما يعطي للنقد هويته النبيلة. لنضع أمامنا تجربة الرومانسية الألمانية الأولى؛ حيث كان الأدباء نقاداً يقودهم مبدأ إبداع مفاهيم جديدة للأدب (لنذكر على سبيل الحصر الأخوَين فيلهلم فون شليغل (1767 - 1845) وفريدريش فون شليغل (1772 - 1829)).

النقد، في وجه من وجوهه، هو تمرُّد دائمٌ على نظرية الأدب

"النقد قبل كل شيء"، إذا استعملنا عنوان دراسة لـ"مارك سيريزويلو"، النقد ليس فقط مجموعة من الأوامر، بل هو تفكيرٌ دائم في تسطير البدايات. كلُّ شيء يجب أن يبدأ من جديد. وذلك لا يُمكن أن يحدث إلّا حين يترك التسلسل الزمني مكانه للأفكار. وهذه المفارقة واضحة جداً، فالتسلسل الزمني يُعطي أهمية لما سبق، في حين أنّ الأفكار تُعطي الأولوية لما سيبدأ. حين تأتي إلى النقد يجب أن يتشكّل ذهنك من هذه القاعدة النظرية. النقّاد يشتركون في فعل واحد مميّز يمكن تلخيصه في خلق مفهوم جديد للأدب في حدّ ذاته، وإعطاء النقد على الفور نبله، والعمل على تجديده من أعلى إلى أسفل من خلال نماذج كبرى. وتأكّد بأنّ عملاً مثل هذا لن يكون سريع التلاشي.

إنّ النقد، في وجه من وجوهه، هو تمرُّد دائمٌ على نظرية الأدب. وعلى الناقد أن يكون أكثر تمرّداً من الشعراء والروائيين، الذين كان أغلبهم، لنقرّ بذلك، كيخوتياً يُشهر سيفه في وجه طواحين الهواء.

كما على الناقد، من جهة أخرى، اتخاذ قرار بتتبُّع الخطوط الرئيسية للاستمرارية التي تُميّز التراث المعرفي الذي بدونه لن يكون النقد الأدبي الحديث موجوداً. وبعد ذلك عليه أن يدرس على التوالي العلاقة بين النقد والشعرية التي أسّسها أرسطو، ومسألة فقه اللغة والتاريخ الأدبي، ومشكلة تفسير الأعمال الأدبية من خلال تقليد (أو تقاليد) التأويلية.

إذا كانت الصفة النقدية kritikos في لغة أفلاطون، تشير إلى مَلَكة التفكير والتمييز، التي تناسب المشرّع أو الطبيب أو الفيلسوف، فإنّ أرسطو، على عكس أفلاطون الذي استبعد الشاعر من جمهوريته، كما نعلم، في كتابه "فن الشعر" خضعت الأعمال التخييلية لأوّل مرّة للفحص. وهو نصّ تعليمي كتبه أرسطو عندما كان يُدرّس في أثينا بين 334 و323 قبل الميلاد. لقد قدّم فيه وصفاً وتسمية لـ"الأجناس". وهذه المفاهيم، كما تعلم، استمرّ استعمالها إلى يومنا هذا. وبعد ذلك، مع الممارسة وتوالي نصوص التحليل، تكرّست العلاقة بين النظرية والنقد.

هذه القدرة المطلقة للناقد فيها شيء مزعج يحوم حولها

القُرّاء يختلفون والكتب تختلف أيضاً. هذه هي قاعدة النقد. القارئ السيّئ لا يقرأ سوى الكتب السيّئة. أدعوك إلى تأمّل هذا القول الدقيق لـ سي. إس. لويس: "لو قلنا إنّ أ يُحبّ (أو تميل ذائقته) للمجلّات النسائية، وإنّ ب يُحبّ (أو تميل ذائقته) لدانتي، فيبدو كما لو أنّ كلنتي يحبّ وذائقة تحملان المعنى ذاته عند استخدامهما، كما لو أنّهما يعبّران عن النشاط ذاته، في حين أن ما يتوجّه كلّ منهما مختلف".

كما أنّي معجبٌ جدّاً بفولتير (1694 - 1778) الذي كان حريصاً على إبداء ملاحظة أنّه في الماضي، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، "انشغل الكُتّاب الأدبيون كثيراً بالنقد النحوي مع المؤلّفين اليونانيّين واللاتينيّين. ونحن مدينون لأعمالهم بالقواميس والطبعات الصحيحة والتعليقات على روائع العصور القديمة". لعلّك تلاحظ في كلمات فولتير رؤية للنقد باعتباره إعادة بناء صَبورة، كمهمّة احترازية قصد تقديم عمل شرطه الرئيسي هو التميّز.

"التمييز" و"النقد" لفظتان من نفس العائلة. وإذا عدنا، على طريقة الانتقادات النحوية في اليونانية واللاتينية، نجد أن معنيهما يشير إلى "الفصل" و"التمييز" لتنحية القمح والقشر جانباً. من حيث الإسناد، على سبيل المثال: لتحرير العمل الأصيل من كتلة الأعمال المزيّفة. إنّ هذه العمليات قد تمسّ، في حالة الخطأ، وجود النقد نفسه.

إنّ أكثر فئة تهتمّ بـ"التمييز" و"الفصل"، قبل حتى نشر الكتاب، هُم الناشرون الذين يبحثون عمّا يرضيهم، لذلك وصفهم بليز باسكال بـ"القوّات المسلّحة". في حين مهمّة الناشر، ولجانه، هو الاكتشاف تحت "عدسة مكبرة".

هذا هو خطر كلّ الانتقادات: الاعتماد فقط على معيار الذوق. والنتيجة هي انخفاض غريب في النشاط النقدي، والذي سيتألّف فقط من الحكم على أعمال العقل من أجل التمييز بين المختارين والملعونين، أو بشكل أكثر دقّة أولئك الذين اخترتهم من أولئك الذين لعنتهم. قال لا برويير (1545 - 1696) ذلك بشكل جيّد للغاية: "هناك حيوية أكثر بكثير من الذوق بين الرجال. أو بالأحرى، هناك عدد قليل من الرجال الذين يرافق ذكاءهم الذوق السليم والنقد الحكيم".

ومع ذلك، في نفس اللحظة التي نحكم فيها على النقد، لا يسعنا إلّا أن نتصوّر النقد على أنه حُكم. هذا الاتجاه قويّ لدرجة أنّه يوجّه كلّ محاولات التعريف، بالنسبة إلى إميل ليتري (1863-1872)، في كتابه "قاموس اللغة الفرنسية" الذي نعود إليه دائماً.

النقد الأدبي هو "فنّ الحكم على الإنتاج الأدبي"، والناقد هو "الشخص الذي يحكم على أعمال العقل" والنقد هو "حكم صادر عن الناقد". هذه القدرة المطلقة للناقد فيها شيء مزعج يحوم حولها. لذلك نفهم لماذا بدأ سي. إس. لويس تجربته في النقد الأدبي من خلال مهاجمة التعريف العادي: "النقد الأدبي له الهدف التقليدي المتمثّل في الحكم على الكتب"، ومن خلال عكس العملية التي ينطوي عليها "الذوق السليم هو الذي يقودنا إلى الكتب الجيّدة، الذوق السيّئ هو الذي يقودنا إلى الكتب السيّئة". لماذا، بعد كلّ شيء، لا يمكننا "تعريف الكتاب الجيّد على أنه كتاب يُقرأ بطريقة معيّنة، والكتاب السيّئ على أنه كتاب يُقرأ بطريقة أُخرى"؟

هل يجب تحميل أرسطو مسؤولية هذا التوجّه النقدي نحو المعيار؟ لفترة طويلة اعتُبر المعيار هو المرجع الأعلى في مجال النقد، عكس ما هو الأمر في العديد من المجالات الأُخرى التي أظهر فيها أرسطو مرونة أكبر. فغالباً ما يكون "كبير أطبّاء الأدب" هو الذي ينطق التشخيص باسمه.

في هذا الصدد، النقد هو بالفعل أحد فروع المعرفة. الدراسة الفردية للمريض هي امتداد للدراسات السابقة، ولها امتدادات خاصّة بها. وبالتالي فإنّ النقد له تاريخ. ولكن يمكن أن يكون أيضاً هو التاريخ الأدبي، الذي يحاول كشف تشابك كتابات الماضي، ووضعها ضمن ترتيب معيّن، وفي الوقت نفسه، متابعة اللعبة المعقّدة للتناسل. إنه يريد، مع سانت بوف، أن يصبح نوعاً من "التاريخ الطبيعي الأدبي"، و"إنشاء تصنيف للعقول". لقد كان يحلم، مع غوستاف لانسون، بتبنّي الموسوعية وسعة الاطلاع، إمّا بهدف إجراء بحث أُحادي متّسم بالصبر، أو لبناء ملخّص تاريخي موسّع، "صورة للحياة الأدبية للأمّة، وتاريخ ثقافة ونشاط خاصّ بالحشد الغامض الذي يقرأ، وكذلك بالأفراد اللامعين الذين كتبوا".


* شاعر وروائي ومترجم من المغرب

المساهمون