"لن يُنتِج التاريخ القادم أنقاضاً بعد الآن. في الواقع، ليس هناك وقتٌ للقيام بذلك. وعلى هذا الركام الناتج عن المواجهات والصراعات التي لن تتوقّف ستظهر أعمال البناء، وربّما معها - مَن يدري - قد تظهر فُرصة لبناء شيءٍ مُختلفٍ، لاستعادة الإحساس بالوقت، والمُضيّ قُدُماً قليلاً، وربّما استعادة وعي التاريخ"، قد تكون هذه العبارة التفاؤلية - إلى حدٍّ ما - مدخلاً مناسباً للحديث عن الفيلسوف وعالِم الأنثروبوجيا الفرنسي مارك أوجيه، الذي رحل عن عالمنا في الرابع والعشرين من تموز/ يوليو الجاري.
وُلد أوجيه في مدينة بواتييه الفرنسية عام 1935، وعاش حياته في باريس، حيث حصل على الدكتواره في الآداب والعلوم الإنسانية. وقد أدرك منذ بدايته المِهنية ضرورة تطوير أنثروبولوجيا العوالم المُعاصرة مع التركيز على أبعاد الحياة اليومية والحداثة. هكذا شهد مجال الأنثروبولوجيا معه تحوُّلاً على مستوى جغرافية البحث. فبسببه، لم يعُد البحث الأنثربولوجي مُنشغلاً بأقاصي المعمورة، أيّ بـ"المجتمعات الراكدة"، كما جرت العادة في الدراسات التقليدية، بل صار يُركّز على أمكنة ومدن يكون الإنسان فيها رهناً للآلة بشكل أكبر.
ضمن هذا الإطار، ركّز أوجيه في بحوثه على عوالم الحداثة: المترو في باريس، ومدينة "ديزني لاند" للألعاب، وطقوس امتطاء الدراجة الهوائية في الأوساط الحضَرية. وقد تطرّق إلى هذه الموضوعات في العديد من مؤلّفاته، مثل "في المترو" (1986)، و"ديزني لاند ولا أماكن أُخرى" (1997)، و"في مديح الدرّاجة" (2009).
لكن سيكون العام 1992، هو الحاسم بالنسبة للأنثروبولوجي، حيث سيكسب شهرةً عالمية مع نشر كتابه "اللامكان"، الذي صاغ فيه هذا المفهوم عندما تحدّث عن المساحات الجغرافية القابلة للتبديل، والتي يظلّ فيها الإنسان مجهول الهوية، مثل وسائل النقل، والمطارات، ومخيّمات اللاجئين، والفنادق.
يتعارض مصطلح "اللامكان" وفقاً لأوجيه، مع فكرة "المكان الأنثروبولوجي" الذي يوفّر، عادةً، لكلّ إنسان مساحة تدمج هويّته، حيث يُمكن العثور على أشخاص آخرين يُشاركونه المراجع الاجتماعية نفسها: "فالمكان، تبعاً لمنهج الحداثة، يدمج القديم والحديث معاً"، كما يشرح الباحث الفرنسي.
وعلى العكس من ذلك، فإنّ مفهوم "اللامكان" ليس مساحةً للّقاء، كما أنه لا يُؤسّس لمرجعيات وإشارات مُشتركة بين الجماعة: "اللاأمكنة هي وليدة 'الحداثة المُفرطة' أو 'الحداثة الفائقة'، وهي مساحات لا يعيش المرء فيها، بل يسكُنها بطريقة مجهولة ومنفردة".
إضافة إلى ما سبق، ترك أوجيه رصيداً كبيراً من المؤلّفات الأكاديمية والكتب المُهمّة، منها: "يوميات شريد في المدينة" (2011)، والأنثروبولوجي والعالَم المعولَم" (2013).