في روايته السيَرية "عملية شايلوك: اعتراف" (1993)، يستحضر الكاتب الأميركي فيليب روث صديقه فيليب سوليرس أكثر من مرّة، ولا سيّما في مقطع يتحدّث فيه عن لهجته حين يتكلّم الإنكليزية. فهو يتكلّمها ــ يقول روث ــ بطلاقة، ومثل "كِبار المثقّفين الفرنسيين" الذين كانوا "كوسموبوليتيين" قبل أيّ شيء آخر. أمّا سوليرس، فلم يتردّد، من طرفه، بالإعلان أكثر من مرّة عن أن روث أكبر كاتب أميركيّ حيّ، مُظهراً اطّلاعاً مُبهراً على أدب صديقه وعلى حبكات وتفاصيل رواياته ومكانته في الأدب المكتوب باللغة الإنكليزية.
لم تكن صداقة الكاتب الفرنسي بروث إلّا واحدةً من آخر الثنائيات التي جمعته بكتّاب ومثقّفين ومفكّرين تركوا بصمة كبيرة على المشهد الأدبي والثقافي الغربي منذ منتصف القرن العشرين. وبرحيل سوليرس (1936 ــ 2023) يوم الجمعة المنقضي، تكون فرنسا قد فقدت واحداً من آخر الأسماء التي كانت تربطها، عبر خيطٍ من الذكريات والحضور المستمرّ، بذلك المشهد الثقافي المحموم والحيويّ الذي عرفته البلاد في ستّينيات وسبعينيات القرن الماضي.
فسوليرس، الذي كتب المقالة، والرواية، والسيرة، والنقد، والنقد الفني، كان، على صغر سنّه حينها، حَجر أساس في ذلك المشهد الذي يبدو لنا اليوم بعيداً. مشهدٌ كان جان بول سارتر ما يزال فاعلاً فيه، وكانت تنشط فيه أسماءٌ مثل ميشيل فوكو ولوي فرديناند سيلين ومارغريت دوراس ورومان غاري وسيمون دو بوفوار وفلاديمير جانكيليفيتش وموريس ميرلوبونتي وجيل دولوز، وعشرات الأسماء الأُخرى التي لم يكن موقع سوليرس بينها هامشياً. ليس فقط لأنه هو الذي أسّس وأدار مجلة Tel Quel، أبرز مجلّات الأدب والفكر الفرنسيين وأكثر تنشيطاً للمشهد الثقافي وإثارةً للنقاشات فيه طيلة ما يزيد على عشرين عاماً (1960 ــ 1982)، بل لأنه اقترح نفسه، منذ البداية، ككاتب من طراز خاصّ في ذلك الوقت.
عتّم حضورُه الإعلامي على تجربته الكِتابية ومؤلفاته
في وقت كان التوجُّه العام ذاهباً نحو التجريب والبحث عن أشكال جديدة (أو "ما بعد حداثية") من التعبير الأدبي (وهو ما ترتّبت عليه ولادة ما عُرف بـ"الرواية الجديدة" مع ميشيل بوتور ونتالي ساروت وألان روب غريّيه، على وجه الخصوص)، خرج الكاتب الراحل بروايته الأولى، "وحدةٌ غريبة من نوعها" (1958)، وكانت أقرب إلى النفَس الحداثي، بمعناه في القرن التاسع عشر، وأقرب إلى تصوّرات ذلك الزمان. روايةُ تحكي علاقة حب بين مُراهق فرنسي وامرأة ثلاثينية إسبانية، بما يذكّرنا بغراميات "الأحمر والأسود" لستندال وبـ"التربية العاطفية" لفلوبير.
هذا النفَس الحداثيّ، أو لنقُلْ: هذا الارتباط بعوالم القرن التاسع عشر، لم يحل دون انخراط الراحل في روح عصره، وخصوصاً ما جاءت به انتفاضة الطلّاب في أيار/ مايو 1968، أي عاماً واحداً فقط بعد زواجه من المحلّلة النفسية والمفكّرة، بلغارية المولِد (1941)، جوليا كريستيفا، التي سيشكّل معها واحدا من أشهر الأزواج الثقافية شهرةً بعد سارتر ودو بوفوار. بل إن سوليرس سيكون من أكثر مثقّفي الـ68 انتقاداً للتقاليد والأخلاقيات ودفاعاً عن اللذّات، والحرّيات، ولا سيّما الحرّية الجنسية ضمن الزواج، وذلك في خليطٍ مع رؤى قديمة تنظر إلى المرأة بوصفها موضوعاً جمالياً وجنسياً، مع تعميماتٍ حول السلوك النسائي تشهد عليه لقاءاته المتلفزة، بل الكثيرة.
وبالفعل، كان حضور الراحل كبيراً في وسائل الإعلام المتلفزة والإذاعية، ويحلو لنا التفكير أنه وجد فيها ما يشبه صالونات القرن التاسع عشر الثقافية: فكثيراً ما شاهدناه في تلك اللقاءات الجماعية، التي يُعرَف بها التلفزيون الفرنسي، ويشارك فيها مثقّفون وفنانون ونجوم من عالم السينما والتلفزيون والإعلام والسياسة وغيرها. وهي لقاءاتٌ أُتيح للفرنسيين الوقوف فيها على اطلاعه الواسع وعلى نظرة تحليلية لافتة في مختلف القضايا والمسائل.
أسّس Tel Quel، المجلّة الأدبية الأشهر في فرنسا القرن العشرين
غير أن حضوره الإعلامي الكثيف هذا ــ الذي امتدّ حتى قبل رحيله بعامين ــ عتّم، بشكل مفارق، على تجربته، وهو الذي كان كثيف الكتابة والنشر: أكثر من ستّين كتاباً بين رواية (آخرها العام الماضي) ومقالة، إلى جانب مؤلفات في النقد الفني والسيرة وكتاب مراسلات مع عشيقته، الكاتبة دومينيك رولان، فضلاً عن أكثر من عشرة كتب حوارات، إمّا قام هو نفسه بإجرائها مع كتّاب بارزين في بداياته (مثل "لقاءات مع فرانسيس بونج"، 1963)، أو من تلك التي أُجريت معه.
ولعلّ طغيان الحضور الإعلامي مبكّراً على تجربته ما دفع صديقه رولان بارت إلى عنونة كتابه عنه بـ"سيوليرس كاتباً" (1979)، وكأنه أراد تذكيرنا بأن الراحل أديبٌ قبل كلّ شيء، حيث يقول: "يبدو لي أن الحضور الصوَري الاجتماعي وطبقاته المتعدّدة تجعلنا ننسى أحياناً أن فيليب سوليرس كاتبٌ. هدف هذا الكتاب التذكير بتلك الحقيقة، وهو يضمّ النصوص النقدية التي وضعتُها ورافقتُ من خلالها مشروعَه الأدبي".