رحلَ عن عالمنا أمس الجمعة فرناندو بوتيرو؛ الفنّان والرسّام والنحات الكولومبي الذي اشتهرَ في جميع أنحاء العالم بشخصيّاته الضخمة والسمينة، عن عمر يناهز 91 عاماً، وذلك في منزله بإمارة موناكو، حيث كان يتعافى بعد إصابته مؤخّراً بالتهاب رئوي، كما أكدت مصادر من عائلة الراحل بالعاصمة الكولومبية.
وُلد بوتيرو في مدينة ميديين الكولومبية عام 1932. مات والده عندما كان عمره أربع سنوات، وبذلت والدته جهداً كبيراً لتربيته مع أخوته الثلاث. درس في كولومبيا، بين ميديين وبوغوتا العاصمة، وتابعَ تخصّصه في "أكاديمية الفنون سان فيرناندو" في إسبانيا، قبل أن بدأ مسيرته الفنّية رسّاماً في جريدة "الكولومبيانو" في أواخر الأربعينيات.
أقام أوّل معرض له في سنّ الخامسة والعشرين في مدينته الأم. وفي عام 1953 وصل إلى فرنسا، حيث تعرّف على تيارات الفن الموجودة هناك، وبعدها سافر إلى إيطاليا والتحق بـ"أكاديمية سان ماركوس"، حيث تأثّر بالنماذج الجصّية واستفاد منها في أعماله.
سفره إلى المكسيك وإقامته فيها لأكثر من عامين كان له أثر كبيرٌ على أعماله، لا سيّما اللّوحات الجدارية التي طبعت بشكل كبير مسيرته المستقبلية. "يجب أن يُنتجَ الفنّ متعةً وميلاً معيّناً نحو شعور إيجابي. لكنّني لطالما رسمت أشياء دراميّة. لقد بحثت دائماً عن التماسك والجماليات، لكنّني رسمت العنف والتعذيب وآلام المسيح... هناك متعة مختلفة في الرسم الدرامي، في الرسم نفسه. أعظم متعة في الرسم هي دون أدنى شك الجمال"، يقول الفنان الكولومبي.
يُعدّ بوتيرو من أبرز فنّاني أميركا اللاتينية وأحد أهمّ الرسّامين والنحّاتين العالميين المعاصرين. تنتشر أعماله الفنية ومنحوتاته الضخمة في معظم العواصم الأوروبية والأميركيتين، رغم الهجوم اللاذع لنقّاد الفن المعاصر، الذين لا يستسيغون حيله الجمالية في الضخامة، وتحوير الأشكال نحو الاستدارة والامتلاء، بطريقة تقترب من الحسّ الفكاهي، وهي تحمل ملامح البساطة، وأحياناً السذاجة، في بهرجة لونية سرياليّة الملامح تتميّز بحرفيّة عالية وصارمة لدرجة أنَّ الموناليزا في لوحته "الموناليزا في سنّ الثانية عشرة" تحوّرت إلى لعبة مضحكة ببدانتها.
لوحات تُجسّد مشاهد التعذيب وأحداثها البشعة في "أبو غريب"
أرّخ الفنان التشكيلي الكولومبي المُعاصر لفظاعة ألم الجسد، وشعور الذلّ البشري، وانكسار الإنسانية المستباحة، عندما غافل العالم عام 2006 بتحوّله عن موضوعاته المألوفة في رسم النساء السمينات والرجال والأطفال الضخام من الطبقات الاجتماعية المختلفة في أميركا اللاتينية إلى لوحات تُجسّد مأساة مشاهد التعذيب وأحداثها البشعة في "سجن أبو غريب" بالعراق.
ففي رسوماته التي حملت عنوان "لا تستح من الحقيقة"، والمرقّمة من (1 حتى 50) وتضمّ عملين ضخمين، إلى جانب عشرات الرسوم متوسّطة الحجم، وجميعها مستوحاة من مشاهد التعذيب بحقّ السجناء العراقيين في "سجن أبو غريب"، تحضر صرخة الإدانة بمشهدية درامية مؤثّرة وأشكالها المتوترة وألوانها الفاقعة وضخامة شخوصها.
قد يرى البعض في تلك اللوحات مجرّد تعليق فكاهي ساخر على صور مشينة، ولكن في تفاصيلها ودقّة تماهيها مع شكل الضحية، نلمس صدمة ألم بوتيرو وتساؤلاته العميقة حول عبثية الوجود، عندما يعود الإنسان إلى حيوان كهف وحشي لم يُشفَ من بربريته وهو يستلذّ أمام ضعف إنسانية مستباحة.
يُروى عن بوتيرو أنّه عندما حدث تفجير في إحدى ساحات كولومبيا، حيث نُصبَ تمثالٌ لحمامة سلام من صنعه، ودُمّر جزءٌ من التمثال ومات ما يقرب الثلاثين شخصاً، طلب الفنّان من السلطات عدم ترميم التمثال، وإبقائه مشوهاً، لكنّه صنع تمثالاً آخر لحمامة سلام، وأراد بذلك أن يصوّر السلام والعنف في بلده كولومبيا. ربما لهذا السبب تحديداً نعاه رئيس الجمهورية الكولومبية، قائلاً: "لقد كان رسّامَ العنف والسلام في بلادنا، رسّامَ الحمامة التي تخلّصنا منها وأُعيدت إلى عرشها آلاف المرّات".