رحيل شوقي بغدادي.. شاعر دمشقي في مرارة المابَين

30 يناير 2023
شوقي بغدادي (1928 - 2023)
+ الخط -

هناك ذائقة شعرية سلسة تشكّلت بين تيارات الشعر السوري في القرن العشرين، واستطاعت أن تدخل مشهدَه بعيداً عمّا فرضه "شعراء المنصات" من تقاليد، على الرغم من أنها صدرت بدايةً عن همّ اجتماعي، وصنعت جمهورها بناءً على ذلك، قبل أن تذهب به صوب نزعة وجدانية أرقّ. أحد أبرز ممثلي هذه الحساسية الشعرية، الشاعر شوقي بغدادي، الذي رحل عن عالمنا مساء أمس الأحد عن عُمر يناهز خمسةً وتسعين عاماً.

وُلد بغدادي في بانياس، المدينة السورية الواقعة على ساحل المتوسط، في 26 تموز/ يوليو 1928، وتدرّج في تحصيله العلمي بين مدارس اللاذقية وطرابلس في لبنان، قبل أن يكمل تعليمه الجامعي في دمشق متحصّلاً من جامعتها على إجازتين في واحدة في اللغة العربية وأُخرى في التربية عام 1951. وهو الذي ارتبط بدمشق في ما بعد راصداً مراحل تخريبها العمراني والسياسي وصولاً إلى مآسي العقد الأخير. 

جاءت مساهمته الأُولى في المشهد الثقافي السوري من خلال مشاركته في تأسيس "رابطة الكتاب السوريين" عام 1951، إلى جانب حنا مينة وحسيب ومواهب كيالي وصلاح دهني وفاتح المدرس وليان ديراني وشحادة الخوري وسعيد حورانية، قبل أن تحمل الرابطة لاحقاً اسم "اتحاد الكتّاب العرب" - وقبل أن يصير هذا الاتحاد بعد عقود جهازاً بيروقراطياً كسيحاً في خدمة الديكتاتوريات وأبعد ما يكون عن الكتابة والكتّاب. 

في عام 1954 وقّع أول إصداراته، وهي مجموعة قصصية بعنوان "حيّنا يبصق دماً" (سبقها عام  1952 إصدار قصصي مشترك بعنوان "درب إلى القمة"). وبعد ذلك بعام، أصدر مجموعته الشعرية  الأولى "أكثر من قلب واحد" (1955). ومنذ ذلك التاريخ، سيكون واحداً من صائغي السلاسة الوجدانية في المشهد الشعري السوري وأحد وجوه بلده الثقافية.

كان وراء تلك السلاسة، انجذابٌ سابق لكل ما هو اجتماعي، أو بالأحرى انشغالٌ بالقضايا الكُبرى التي لم يرَ فيها نقيضاً لذلك الموقف الشعري. ويغذّي هذا الانشغال كون عقد الخمسينيات كان متوهّجاً بالسياسة على المستويين العالمي والمحلّي. وهنا اصطدمَ الشاعر الماركسي الهوى، بجمهورية الوحدة السورية - المصرية، ليخوض إثر ذلك تجربة الاعتقال، التي وإن لم تتجاوز التسعة أشهر، إلا أنها تركت أثرها في كيانه، كما أن تجربة الوحدة بدورها أنبأت بما ينتظر البلاد في عقد الستينيات.

وفي هذه المرحلة أصدر بغدادي ديوانين: "لكل حبّ قصة" (1962)، و"أشعار لا تحبّ" (1968)، قبل أن يُسافر إلى الجزائر لمدة أربع سنوات، ويعود عام 1972. ومع هذه العودة، ستكون البلاد قد دخلت على المستوى السياسي مرحلة من الاستبداد لم تخرج منها إلى اليوم.

أفصح بغدادي، في العقود التالية، عن مشروعه الأدبي، ومن ضمنه الشعري، إذ أصدر مجموعات شعرية عديدة بينها: "بين الوسادة والعنق" (1974)، و"ليلى بلا عشاق" (1979)، و"قصص شعرية قصيرة جداً" (1981)، و"كم كل بستان" (1982)،  و"شيء يخص الروح" (1996)، و"البحث عن دمشق" (2002). إلى جانب حكايات شعرية للأطفال مثل "عصفور الجنة" (1982)، و"القمر على السطوح" (1984)، محاولاً في النقد والدراسات أيضاً: "قديم الشعر وجديده" (1986)، و"عودة الاستعمار: من الغزو الثقافي إلى حرب الخليج" (1992). كما واصل نشر المجموعات القصصية، ونشر رواية واحدة بعنوان "المسافرة" (1994).

وكما شغلته العدالة همّاً اجتماعياً وموقفاً إنسانياً وشعرياً، فإنّ الحرية عنده تلازمت وإياها، سواء في كتابته عن فلسطين ولها، إذ نقرأ من شعره:

"في درس الرسم تسابقنا
كان الموضوع هو السكينْ
أنجزت الرسم سريعاً
ثم نظرت إلى جاري من غزة
يرسم ويلوِّنُ
يا للدَّهشه!

في درس آخرَ
قال معلّمنا: ارسمْ بلدتك كما تتصوَّرها
فرسمتُ على ورقي أجمل بلده
لكني حين نظرت إلى جاري من غزة
لم أبصرْ - يا للعجب! -
سوى ورده"

لكن ما حدث معه في بلده سورية - التي نادى لها  بالديموقراطية وكان أحد أصواتها الأدبية - أن الحراك الثوري الذي تفجّر عام 2011 وصل إليه وقد تجاوز الثمانين، سنّ دفعته إلى حذر الشيخوخة حيث لم يؤيد الثورة ولم يقف ضدها أيضاً، وعاش عقده الأخير في مرارة "المابين". 

تحوّل الشاعر السياسي، بل والثوري كما كان يحبّ شعراء جيله وصف أنفسهم، إلى شاعر منطوٍ على صمتٍ مرير. وبانكفاء الشيخوخة نشر في دمشق قبل عام ديوانه الأخير، وهو على مشارف الخامسة والتسعين، تحت عنوان "بعد فوات الأوان". 

■■■

اعتذار غير متأخّر

* شوقي بغدادي


في غابتي
وأنا أفتشّ عن غزالي
هبّت روائحهُ
ومن كلّ الجهات أتت
وحين عجزتُ أنجدني خيالي
أبصرته يَرعى
وحين لمستُهُ فرَّ الحريرُ
وذابَ لحمٌ خائفٌ
فقنعت أن أصابعي مسحورة أبداً
بغمز رشاقةٍ هربتْ
وذوبِ نعومةٍ غاضتْ
وطَيفِ جَمالِ.

في الليل
غيّرتُ الفراش فلم أنم
فشكوتُ من أرقٍ جميلٍ كان يُلهمني
ولم أعبأ بما في الليل
من طُرقٍ ومن ترحالِ
حاصرت نفسي بالظلام وبالعمى
وغفلت عن قبسٍ أضاء حِيالي
وعن الذين تجمعوا لمسرّتي
وأنا أُبادلهم بسُخفِ مِطالي
حتى إذا غبر الزمان وجدتني
لا أستعيد سواهُمُ في بالي
ومن الليالي كلها لم يبقَ لي
إلّا مجالسهم
وبضع ليالي.

في الحب
لم أبحث عن امرأةٍ
إذا لاقيتُها يوماً إذن لعرفتُها
حتى إذا صادفتُها لم أنتبه
فنسبتُها لسواي
ثم فقدُتها،
لفقتُ أحيانا عيوباً
لم تكن فيها
وحين محوتها أكّدتها
ومحاسناً أُوهمتُها فتشكّلتْ
حتى إذا أنجزتُها صدّّقتُها
وبكيتُ حتى ظُنَّ أني عاشقٌ
وهي الدموعُ جميلةٌ
فعشقتُها
آهٍ على دنيا كسرتُ زجاجَها جهلاً
ولو خُيرتُ لاسترجعتُها
وبنيتُ مِنْ ذاكَ الحطام مدينةُ
أو قريةً
أو غرفةً
وسكنتُها
واليوم كلّ سعادتي في دميةٍ
لا تستجيب
فكيف لو حرَّكتُها
والآن، في كلّ المآدب
في المَعارض
في البساتين الثريّةِ
لا أُقارن بين فاكهةٍ وفاكهةٍ
إذا اتفقت مواسمُها جميعا
وإذا عشقتُ
فلا أُسوّغُ شهوتي
أو عفّتي
وإذا امتنعت فلن أجوعا
جسدي ذكيٌّ
حين أُطلقه يحذّرني سريعا
والعقلُ
 آهٍ منه
ما أذكاه منطلقاً
وما أغباه هياباً جزوعا!

فلأعتذر للفجر
لم أنهض على إيقاعه
متجدّداً، متحوّلاً
والشمسُ تُولدُ
لم أكن في حفلةِ الميلاد
طائرها الخفيفَ الأوّلا
ولديمةٍ لم أمشِ تحتَ رذاذها
متمهّلاً
ولكلّ عصفورٍ تبلّل
فاحتمى بنوافذ أغلقتُها
ولكلّ أُنثى شيّخت قابلتُها
لم أعترف بشبابها الباقي
ولا جمّلتُها
ولأطلب الغفران
مِنْ عشبٍ طريٍّ لم أقبّله
ومن نبع سخيٍّ لم أُمجده
ومن طفلٍ وحيدٍ لم أُلاعبه
ومن فرخٍ صأى في عشّه ذعراً
ولم أصبح له أُمّاً
ومن أغراسِ لوزٍ
شدّها مِنْ شَعْرها وحشٌ
ولم أضرب على يده
ومن بلدٍ أمينٍ
يُستبدُّ بهِ
ولم أقرع له جرساً
فهل فات الأوان على اعتذاري؟
أم أن في صُلب الحكاية
أن أضلّ وأهتدي
فأرى الهزيمة في انتصاري
وأرى انتصاري في انكساري
هي فوق إدراكي... بلى
لكنني من دون أن أدري
شريكٌ في الحوارِ
وأنا الذي أضعُ التفاصيلَ الصغيرة
والجميلة
في كتاب الانتظارِ.


* من مجموعة "شيء يخصّ الروح" الصادرة عام 1996

المساهمون