رحيل رجائي بصيلة: تسعون عاماً في مقاومة الظلام

12 ديسمبر 2020
(رجائي بصيلة)
+ الخط -

"أنا لا أقول صفقة القرن. أقول صفعة القرن... الحل لقضيتي أن أبقى في بلدي، وإذا كان الحل أن أتركها فهذا ليس حلاً"، يقول الباحث والكاتب والشاعر الفلسطيني رجائي بصيلة (1929 – 2020) الذي رحل الأحد الفائت، في مقابلة تلفزيونية أجرتها معه في لندن قناة "المغاربية" قبل عامين، هو الذي عاش ثلاثة أرباع عمره في المنفى مبعداً عن وطنه المحتل.

يشير أستاذ الأدب الإنكليزي في المقابلة ذاتها إلى أن القضية الفلسطينية بدأت منذ قرن، وليس مع النكبة، ولن تنتهي حتى يحصل الفلسطيني على قيمته كإنسان في بلده محترماً مقدَّراً، وأن تهويد فلسطين وطرد أهلها كان هدفاً مقرّراً منذ تسعينيات القرن العاشر، والعربي يجهل مغزى ومعنى القضية الفلسطينية وتأثيرها عليه وعلى مجتمعه.

مواقف بصيلة لا تعبّر عن مشتغل في السياسة، بل هو يمقتها ويهجوها، إنما تأتي من شخصية قاومت العجز والإحباط منذ صغرها، وهو الذي فقد بصره في الثانية من عمره بسبب التهاب أصاب عينيه. بدأ تعليمه في الكتاتيب على يد "الشيخة بكرية" قبل أن يلتحق بمدرسة دار الأيتام الصناعية الإسلامية في القدس حيث تعلّم بعض الأعمال اليدوية، حتى تأسّست المدرسة العلائية للمكفوفين في مدينة الخليل التي ترأسها صبحي الدجاني، فانضمّ إليها، ثم أكمل دراسته النظامية في مدرسة الرملة الثانوية والمدرسة العمرية في القدس.

ولد في القدس عام 1929 ونزح عام 1948 ورحل قبل أيام

هُجّر صاحب المجموعة الشعرية "قصائد طفولة فلسطينية" (بالإنكليزية، 2019) من مدينته اللد عام 1948 قسراً بعد احتلالها على يد العصابات الصهيونية، فلجأ إلى مدينة نابلس. ورغم شغفه باللغة العربية وآدابها وميله إلى دراستها؛ إلا أنه اختار اللغة الإنكليزية التي نال فيها شهادة البكالوريوس من "جامعة القاهرة" عام 1952، لينتقل بعدها إلى مدينة نيويورك حيث حاز درجة الماجستير من "كلية هنتر" والدكتوراه من جامعتها.

امتاز بصيلة بإرادة قوّية تجاوز من خلالها أصعب الظروف وأقساها بالنسبة إلى طفل كفيف في تلك الفترة، وتمكّن كما يروي في سيرته من أن يتفوّق على جميع أقرانه حينما درس في الولايات المتحدة، وبزّهم معرفة باللغة والثقافة الإنكليزيتين، ما مكّنه من أن يعمل مدرّساً في "جامعة إنديانا كوكومو" الأميركية لأكثر من ثلاثة عقود.

تسكنه روح الدعابة والنكتة التي تخفي عزيمة قوية ومقاومةً لجميع معوّقات العيش وهمومه، يتحدّث عن طفولته البسيطة والعادية، مستذكراً سخرية قاسية مارسها كثيرون نحو إعاقته، ومحبّة وتشجيعاً في المقابل قدّمهما آخرون، وكيف ولّد ذلك فيه ثباتاً وتوازناً، ومنحه تصالحاً داخلياً مع نفسه.

روى في مذكراته تفاصيل مجزرة اللد وتهجير الآلاف منها

في مذكّراته "أرض ميلادي: طفولة فلسطينية" (2017) الصادرة باللغة الإنكليزية، يقدّم بصيلة مزيجاً غنياً من السرد وقراءة المكان وثقافاته وجذوره وعاداته وتقاليده ونظام التعليم، في رواية تفاصيل حياته منذ الطفولة، بصراحة ودون تحفظّ حيال العديد من الوقائع التي عاشها والمشاعر التي أحسّها، إذ يكتب كيف كره المدرسة وتمنّى ألّا يعود إليها في بداية تعليمه، وعن تكيّفه مع الواقع "المظلم" الذي عاشه ومعنى الظلمة والظلام كما تعرّف إليه أوّل مرّة على ألسنة الناس من حوله، واكتسابه مهارات جديدة جعلته يتعرّف على الأشياء والبشر من أصواتهم وروائحهم ومن الملمس والشكل، حيث سيولد عشقه لرائحة الحبر وصرير الطبشور ويتعلّق بالعلم على مدى حياته.

ويتنبّه في الكتاب إلى أمور صغيرة لكنها لم تُمح من ذاكرته، وظلّت الأسئلة حولها حاضرة رغم مرور الزمن، أو أن الاستفهام يحمل نوعاً من الاستغراب والهجنة من أفعال وسلوكيات الكثيرين، بطريقة ذكية ومعبّرة حين يلفت إلى تقبيل بعض الناس يد مفتي القدس أمين الحسيني وانتظار بركاته التي تشمل ذريتهم، أو صناعة الأبطال وخلق أساطير حولهم.

تمضي الأحداث إلى يوم الثلاثاء، ما بين الثامنة والثامنة والنصف صباحاً، في الثالث عشر من تموز/ يوليو عام 1948، حيث ارتفعت مكبرات الصوت في الشواع وسط إرباك وفوضى وصخب كبير، وسُمح للناس بمغادرة المدينة وإلا سيكون مصيرهم القتل؛ تهديد أتى بعد يومين من ارتكاب وحدة كوماندوز صهيونية بقيادة موشيه دايان مذبحة في اللد، وخرج الأهالي يبحثون عن ملاذ لهم، مردّدين أنهم سيعودون قريباً جداً، حيث لن يستغرق وصول الجيوش العربية وقتاً طويلاً لتطرد المحتل الجديد، هكذا كتّب بصيلة لحظة مغادرة أمكنة طفولته ومربى صباه.

تحمل مذكراته التي تنتمي للتاريخ الاجتماعي رؤية نقدية

تنتمي المذكرات التي قدّم لها الروائي اللبناني إلياس خوري، إلى التاريخ الاجتماعي والثقافي الذي قليلاً من يتمكّن كتّاب السير واليوميات من تتبّعه، وربط الحياة الشخصية بواقع الجماعة ومصيرها، بحيث تجمع بين الحكاية وبين معاينة المواقف السياسية والمعتقدات الاجتماعية والتصوّرات والمفاهيم الجمعية وتحوّلاتها بسلاسة وبراعة في السرد.

يوضّح بصيلة بأنه ألّف هذا الكتاب من أجل تناول ثلاثة مسارات، أولها العمى وثانيها تعلّم الطفل الكفيف في المدرسة، وربما يخطر في البال هنا كتاب "الأيام" لطه حسين الذي تضمّن سيرته، إلا أننا نقف عند فوارق أساسية بين الكتابيْن؛ فبينما يغلب الحنين إلى الطفولة والرغبة في التحديث وتقديم المثال والنموذج عند حسين، نجد أن الرؤية النقدية والنزعة الواقعية كانتا أكثر حضوراً عند بصيلة الذي يرفض تجميل الأخطاء والتشوّهات والكوارث.

المسار الثالث يتصل بالمناخات السياسية عشية النكبة حيث سادتها أجواء من التذبذب والتأرجح بين مزاجيْن: اليقين من الانتصار على الاحتلال البريطاني والتهديد اليهودي، والتخوّف من فقدان البلاد، حيث لم يفلت الطفل الكفيف الذي نشأ في عائلة فقيرة من هذه الاضطرابات التي تركت أثرها البالغ عليه حتى رحيله.

تجاوَز بصيلة تلك المرحلة المعقدة ومضى في دربه بنجاح، حيث حقّق ذاته أكاديمياً وباحثاً وشاعراً باللغة الإنكليزية، وعاش في مدينة كوكومو بالولايات المتحدة التي وصل إليها منتصف الستينيات، وحظي فيها بتقدير مجتمعه الأكاديمي. عاش حياته كما آمن وأراد إلى أن نُقل إلى المستشفى في السادس والعشرين من الشهر الماضي ليرحل منذ أيام.


بساطة شعرية عميقة

"كنتُ أقشّرُ برتقالةً لآكلها/ في منتصفِ آذار/ فأرخَتْ لمعانَها الذهبيّ على غروب الشّمس الحاد"، بهذه البساطة الشعرية العميقة تتداعى ذكريات بصيلة حول طفولته في فلسطين، والتي سجّلها في مجموعته الشعرية "قصائد طفولة فلسطينية" التي صدرت بالإنكليزية العام الماضي عن "منشورات سموكستاك"، مستذكراً فيها موج يافا كما رآه صغيراً، وتجواله في حواري القدس يأكل اللوز الأخضر بالملح. بتلك الذكريات الحيّة ودّع فلسطين.

المساهمون