رحيل حليم بركات: الإصرار على "الاغتراب" حتى النهاية

29 يونيو 2023
حليم بركات (1933 ــ 2023)
+ الخط -

يرتبط اسمُ حليم بركات بظاهرة الاغتراب، التي شخّصها منذ أعماله البحثية الأولى في الثمانينيات، والتي حلّل فيها راهن المجتمعات العربية. اهتمامٌ قاده، بعد عقود، لتخصيص كتابين عمّق فيهما أبحاثه حول هذه الظاهرة التي تناولها على مستويين: في الحياة اليومية للمواطن العربي ("الاغتراب في الثقافة العربية: متاهات الإنسان بين الحلم والواقع"، 2006) وفي حياة المثقّفين ("غربة الكاتب العربي"، 2011).

عن عُمر ناهز التسعين عاماً، رحل عالم الاجتماع والروائيّ السوريّ يوم الجمعة الماضي، الثالث والعشرين من حزيران/ يونيو الجاري، في مغتربه الأميركي، تاركاً وراءه سبعة عشر مؤلَّفاً في الرواية والسوسيولوجيا.

وُلد الراحل عام 1933 في قرية الكفرون، الواقعة بين حمص وطرطوس، لعائلةٍ مسيحية. وكما يقول في حوار مع مجّلة "المستقبل العربي"، نُشر عام 2009، فإنّه عرف الغربة مبكّراً، إذ اضطرّت عائلته للانتقال إلى لبنان بعد وفاة والده وتردّي أوضاعهم الاقتصادية، بينما لم يكن قد تجاوز التاسعة من العُمر بعد.

وبفضل عمل أمّه وكفاحها من أجل إعالته وأخوته، استطاع بركات التدرّج في المستويات الدراسية، إلى أن نال إجازة عام 1955 ثمّ درجة الماجستير في علم الاجتماع من "الجامعة الأميركية" في بيروت عام 1960، والتي سيعود إليها مُدرّساً في ما بعد؛ أي بعدَ ذهابه للدراسة في الولايات المتّحدة وحصوله عام 1966 على درجة الدكتوراه في علم النفس الاجتماعي من "جامعة ميشيغان ــ آن آربور".

وخلال فترة تكوينه العلمي هذه، نشر روايتين ("القِمَم الخضراء"، 1956؛ و"ستّة أيّام"، 1961) ومجموعة قصصية ("الصمت والمطر"، 1958)؛ وهي أعمالٌ جمع فيها بين البُعد السيَري والهمّ القومي، الذي كان قد تنمّى خلال قيامه بأبحاث ميدانية في لبنان قابل فيها لاجئين فلسطينيين ومثقّفين عرباً. 

وسيبقى بركات يتنقّل بين هذين البُعدين في مجمل رواياته اللاحقة، مثل "عودة الطائر إلى البحر" (1969)، و"طائر الحوم" (1988)، كما سيجمع بينهما في كتابه السيَريّ "المدينة الملوّنة" (2006)، الذي يستعيد فيه حياته ببيروت.

على أن الاعتراف الذي استحقّه حليم بركات خلال حياته كان منبعه في مكان آخر: في اشتغالاته السوسيولوجية، أو في نوع من الإثنولوجيا النظرية، التي قدّم من خلالها ــ "بلغةٍ تحليلية، نقدية"، كما يقول في أحد كتبه ــ وصفاً لبنية وأزمات "المجتمع العربي المعاصر" (1984)، وهو عنوان كتابه البحثي الرئيسي، الذي سيُفرِّع عنه كتباً أُخرى مثل "المجتمع العربي في القرن العشرين" (1999)، و"المجتمع المدني في القرن العشرين" (2000).

كان بركات في كتبه هذه نقدياً إلى ذلك الحدّ يستحقّه الوضع العربي بسببب ما يعرفه من ركود وضياع في متاهة تبدأ بـ"تقليد الماضي" وتنتهي بـ"تقليد الآخر"، كما يقول. بل وذهب في العديد من أعماله حدّ وضع حلول لاغتراب المُواطن عن مجتمعه، ولفساد مؤسّسات الدولة، ولهرمية المؤسّسات الاجتماعية. 

وفي حوار قديم، أجراه معه ماجد السامرائي ونُشر مطلع 1978 بمجلة "الأقلام"، يلخّص الراحل رؤيته إلى التغيير العربي، الذي يقول إنه يتطلّب "تحقيق الحرّية والعدالة معاً"، إذ "لا يمكن تحقيق إحداهما دون الأُخرى، فارتباطهما ارتباطٌ عضويّ كيانيّ". ويذهب إلى خلاصة موقفه ليقول، في الحوار نفسه: "رؤيتي للواقع تنطلق من قناعة تؤكّد على وجود تناقضات راسخة في المجتمع، وأن التحرُّر لا يكون دون حدوث ثورة شعبية تهدف إلى إقامة مجتمع موحّد ــ اشتراكي ــ ديمقراطي".

غير أن حليم بركات اختفى عن المشهد تماماً مع اندلاع ثورة شعبية في بلده، كانت ــ في بداياتها الأقل ــ تُشبه تلك التي ظلّ يطالب بها لعقود، كمفكّر ومثقّف، وكسوريّ وعربيّ. فهي ثورةٌ طالبت بالحرّية والعدالة، وبإقامة مجتمع أفضل ــ قبل أن تَحيد وتُحَيَّد عن مسارها. صحيحٌ أنه كان متقدّماً في السنّ، غير أن العديد من النشاطات واللقاءات الصحافية كان قد أُقيمت في حضوره منذ 2011، من دون أن يرغب في التوجّه بالحديث إلى أبناء بلده أو إلى مثقّفيه.

في أمسية عُقدت عام 2017 في "المركز الفلسطيني" بواشنطن لتكريم حليم بركات، قال الباحث إدموند غريب، في ورقة ألقاها بحضور بركات وزوجته وعدد من زملائه الأكاديميين والحضور، إنّ بركات عبّر له في أحاديثهما عن حزنه من "التطوّرات" التي تعرفها سورية. ينقل عنه غريب: "من أكثر التطوّرات التي سبّبت ألماً لدى حليم في السنوات الأخيرة ــ بحسب ما سمعتُ منه خلال حديثي معه ــ المآسي التي حلّت بالعديد من الشعوب العربية (...). لقد كان حزنه شديداً بسبب التدخّلات الأجنبية، وأعمال العنف، والإرهاب، والتدمير التي ألمّت بالأرض التي وُلد وكبُر فيها وكان يأمل بالعودة إليها".

كلامٌ يُعيد إلى الأذهان مواقف مثقّفين سوريين بارزين من أبناء جيله، الذين لم يروا الانتفاضة الشعبية في بلدهم، إلّا من مجهر التدخّلات الأجنبية والأعمال الإرهابية والدمار، متناسين ما طالب به شعبٌ من حرّية وديمقراطية وعدالة، وما حلّ بهذا الشعب من قتل وتهجير.

لم تكن ثمّة مفارقة أكبر من أن يُصدر الراحل كتابه "غربة الكاتب العربي" بالتزامن مع الأشهر الأولى من الثورات العربية عموماً، والثورة السورية خصوصاً. في عنوان الكتاب ما يحكي الكثير عن اغترابه وتغرُّبه، كمثقّف، عن مجتمعه وهمومه. وهذا ربما ما يتطلّب، يوماً، إعادة قراءة منتَجه انطلاقاً من علاقته الفعلية بالواقع، لا انطلاقاً من خطاب يتكلّم باسم الواقع من دون أن يعرفه، أو من دون أن يريد معرفته.

آداب وفنون
التحديثات الحية
 
المساهمون