في عام 1962، عرض "مهرجان كانّ" السينمائي واحداً من آخر الأفلام التي ينسبها نقّاد السينما إلى ما يُعرَف بالموجة الجديدة، التي وُلدت في فرنسا نهاية خمسينيات القرن الماضي على أيدي مخرجين مثل كلود شابرول وأنييس فيردا، وسطعت فيه أسماء مثل جان لوك غودار وفرنسوا تروفو.
الحديث هنا عن فيلم "وداعاً فيليبين"، للمخرج الفرنسي جاك روزييه، الذي يُعَدّ من طليعيّي الموجة الجديدة؛ بفضل أفلام قصيرة وضعها منتصف الخمسينيات، وذهب فيها نحو لغة تجمع بين التجريب والشعرية، في مفارقة للسينما السردية الشائعة في زمانه.
عن ستّة وتسعين عاماً، رحل جاك روزييه، يوم الجمعة الماضي، في باريس، ليكون آخر مَن يغادرنا من مخرجي الموجة الجديدة، بعد جان لوك غودار الذي رحل عن عالمنا العام الماضي.
اقترن اسم روزييه ــ الذي وُلد في العاصمة الفرنسية عام 1926 ــ بالنوع أكثر من اقترانه بالكمّ، إذا أنجز خلال مسيرته الطويلة، التي امتدّت أكثر من خمسين عاماً، خمسة أفلام روائية فقط، إلى جانب وثائقيّ طويل (حول المخرج جان فيغو) والعديد من الأفلام القصيرة.
ولم تكن هذه القلّة وحدها التي ساهمت في تهميش المخرج الراحل، ودفعت اسمه إلى الظلّ حتى في بلده، بل كذلك عمله وفق مبادئ ــ أخلاقية أو فنّية ــ لا تلقي بالاً للسينما التجارية، أو للسينما التقليدية بشكل عام: إنْ كان في اعتماده على ممثّلين هواة أحياناً، أو في تصويره أفلاماً تقوم على ارتجال الممثلّين، من دون الاعتماد على حوارات مكتوبة مسبقاً، أو حتى مسجّلة في الاستوديو.
تناولت أعماله ثيمات متنوعة كالسفر والرغبات والأحلام الشخصية
هذه التجريبية الحادّة حالت دون وصول أعماله إلى الجمهور الكبير، ضمن معنيَين: أولاً، عدم قدرة قسم من المشاهدين على التقاط ما يريد قوله بسبب تعقيد الحبكة، أو عدم وجودها، أو بسبب الطبيعة المركّبة للشخصيات والنص. وهنا، يمكن التذكير بقول له في حوار مع صحيفة "لوموند" عام 1963، حول فيلمه "وداعاً فيليبين"، حيث يرى أن 50 بالمئة فقط من الحضور "فهموا" عمله.
أمّا ثاني المعاني، فهو أكثر مباشرةً: ففيلمه هذا، "وداعاً فيليبين"، لم يخرج إلى الصالات إلّا بعد عامين من إنتاجه وعام من عرضه في "مهرجان كانّ". أمّا آخر أفلامه الروائية الطويلة، "فيفي مارتنغال" (2001)، فلم يخرج إلى الصالات أبداً، رغم عرضه في "مهرجان البندقية". والغالب أن تجريبية العمل (الذي يدور في مسرح ويؤدّي فيه عددٌ قليل من الممثّلين)، وموقف المخرج من التوزيع التجاري، هما اللذان حالا دون وصوله إلى الصالات.
لم تكن سينما جاك روزييه تجريبية من أجل التجريب فقط، بل التجريب كان عنده وسيلة من أجل الوصول إلى معانٍ جديدة يريد تقديمها على الشاشة. أمّا على مستوى الموضوعات، فلم يغادر الراحل مجموعة من الثيمات التي ظلّت تشغله في مختلف أعماله، طويلةً كانت أم قصيرة، وفي مقدّمتها السفر، والتجوال دون هدف، وتتبُّع الرغبات والأحلام الشخصية في معزل عمّا ينتظره منّا المجتمع، تماماً كما في شريطه القصير الثاني، "العودة إلى المدرسة" (1956)، والذي لا نرى فيه البطل الصغير يعود إلى صفّه كما يعدنا العنوان، بل يمرح في المروج والماء خلال أول أيام السنة الدراسية.