قلّة هُم الفلاسفة الفرنسيون البارزون الذين كرّسوا القسم الأكبر من تجربتهم للبحث، بعدّة فلسفية، في قضايا العلوم الطبيعية والاجتماعية، وسعوا إلى تقديم قراءات مجدّدة وعملية في قضايا البيئة، وعلاقة النوع البشري بالطبيعة، بما هي كائنات حيّة وأشياء.
أمس الأحد، رحل في باريس، عن 75 عاماً، الفيلسوف والأنثروبولوجي الفرنسي برونو لاتور (1947 ــ 2022)، الذي يُعَدّ من أبرز الأسماء التي أضافت إلى الفكر الإيكولوجي والنقاشات حول دور العلوم وحدودها وحول معنى الحداثة، عبر سلسلةٍ من الأعمال التي حوّلته، بدءاً من عام 2007، إلى واحد من أكثر الباحثين الذين تُقتبَس أعمالهم ويُستشهَد بها في دراسات وكتب العلوم الإنسانية حول العالم، بحسب ملحَق مجلّة "تايمز" للتعليم العالي.
ومنذ بداياته، أظهر لاتور اهتماماً بالبُعد التطبيقي للعمل الفكري، إذ ما إنْ أنهى دراسته للفلسفة حتى بدأ بحثاً ميدانياً في مختبر للتنمية والتكنولوجيا في أبيدجان بساحل العاج، في محاولة لفهم العلاقة بين مسائل العِرق والاستعمار والنضال بعالم التصنيع والتكنولوجيا، وهو بحثٌ سيقدّم نتائجه في كتابه الأول: "حياة المختبر: البناء الاجتماعي للحقائق العلمية" (بالإنكليزية، بالاشتراك مع ستيف وولجر).
عاد المفكّر الراحل، بعد عدّة أعوام، بعمل مهمّ في سوسيولوجيا العلوم، هُو "العِلم فاعلاً" (Science in Action)، الذي صدر بالإنكليزية عام 1987، والذي يقترح فيه منهجاً بحثياً عملياً لدراسة العلوم التقنية.
على أن عمله البارز خلال هذه السنوات، وربما خلال مجمل تجربته الفكرية، يتمثّل في "لم نكن حداثيّين أبداً: بحث في الأنثروبولوجيا التناظرية"، والذي يقترح فيه قراءة جديدة للعديد من النظريات التي شكّلت الحداثة الأوروبية، والتي تجتمع كلّها في الفصل الحاد بين الثقافة والطبيعة، بين الإنسان والأشياء، وهو ما يفنّده لاتور عبر إظهار الهجنة الجوهرية في مختلف الكائنات والأشياء والمواضيع التي يمكن لنا التفكير بها، والتي غالباً ما يختلط فيها الطبيعي بغير الطبيعي، الحيّ بغير الحي، والسياسي بالحيوي بالاجتماعي بالثقافي... إلخ.
وضع لاتور أكثر من ثلاثين كتاباً في حقول تمتدّ من فلسفة العِلم إلى التنظير البيئي والإيكولوجي والبحث الأنثروبولوجي والسوسيولوجي، مروراً بالحقوق ومناهج البحث والمستقبليات، وهو ما جعل تصنيفه أمراً شديد الصعوبة، وربما ساهم هذا التنوّع في الاهتمامات والمشارب النظرية والمعجمية في عدم وصول أعماله سريعاً إلى العالم العربي، الذي لم يُترجِم من كتب المفكّر الراحل إلا كتابين: "لم نكن حداثيّين أبداً" و"أين نرسو؟".