رحمة ربّي

13 يوليو 2024
مو باعلا/ المغرب
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- في طفولتنا، كنا نعتقد أن "رحمة ربّي" هي المخلّصة، لكن اكتشفنا أنها الغولة التي تزرع الرعب في قلوبنا، واستمر الخوف منها في زياراتها الليلية.
- مع مرور الوقت، اكتشفنا أن الغولة "رحمة ربّي" هي واحدة من أمهاتنا أو نساء البيت، متنكرات لإخافتنا عندما نكون شقيين، وهي جزء من تقاليدنا العائلية.
- بعد وفاة أمي، التي كانت تلعب دور الغولة، شعرت بفقدان كبير وحنين لرؤيتها، فتركت بيتي وزوجتي وسكنت في الحقل المجاور، منتظراً عودتها.

"جاتكم رحمة ربّي"...

اعتقدتُ، أوّل ما سمعتُ الاسم، أنّ مُخلّصتنا قد وصلَت أخيراً، أنا ورفقة خمسة من أبناء الجيران، وثلاثة من أولاد خالاتي. ضجّت الغرفة بنا، جدرانُها شكَت من صُراخنا يومها وأُصيبت بالصُّداع، أجسادُنا الصغيرة تتقافز بخفّة تُثير أعصاب الكبار، حاولوا إخمادَ نارِنا بشتّى الطُّرق دون جدوى، اعتقدنا أنّ المُسمّاة "رحمة ربّي" ستأخذنا لغرفة أوسع، لفضاء شاسع ودافئ، يُشبه جبل الأطفال بالجنّة، حتى نركض ونلهو كجياد حرّة دون لجام. 

نظرنا نحو الباب ننتظرُها بحُمّىً في القلب، لكن ما إن ظهَر لنا طرَفُ ثوبها، حتى شُلّت أطرافُنا، شعَرْنا بالدّماء وقد تجمّدت في عروقنا، أيُعقل؟ إنّها الغولة، وبغمّازات على خدّها الأيسر! مياه دافئة لمسَت قدمي، ابن جارتنا "فاطنة" أَفرغت مثانتُه قلبَها دون إذن منه. بعد لحظات من الجمود من أثر الصدمة، تطايرنا في الغُرفة كحبّات فشار داخل آنية حديدية، أردنا من الجُدران أن تفتح لنا قلبها لنختبئ، فغلقُنا لأعيُننا بكفوفنا لم يعُد كافياً.

تدخل جدّتي الغرفة كمُخلِّصٍ من محنتنا، وتطرد "رحمة ربّي" مُمسكةً إيّاها من ملابسها البالية بكلّ هِمّة، فَلجدّتي هيبةٌ أراها كلّما تحدّثت مع والدي وأعمامي، اذ يُطأطئون برؤوسهم دون أن ينظروا إلى وجهها، فمَن تكون الغُولة أمامها حتى تخشاها! تنظر إلينا بعينيها المُكحّلتين ووجهُها المُبْيَضِّ كأنها سقطت وسط كيس دقيق، يقولون لنا بعد رحيلها بأنها ذهبت للحقل حيث تبيتُ ليلها، يهدأ رعبُنا قليلاً، نطمئنّ بعدها للنوم في بيوتنا بعيداً عن الغرفة التي زارتها الغولة، لكنّها تعود ليلاً، وتسرق النوم من جفوننا بكفّها، تزرع الحمّى في أجسادنا الصغيرة، وتختلط بحُلمنا، وكأنّها تختبئ تحت اللّحاف والوسادة والغطاء، بين ملابسنا أيضاً، وتحت جلدنا، أينما أدرتُ وجهي أجدها تنظر إليّ! 

تلتقي أمّهاتنا في صباح اليوم التالي بقلق خفيف، تحكي كلّ واحدة ما حلّ بابنها على أثر زيارة الغُولة، توشوشن بكلام لا نفهمه عندما نكون حولهنّ، تضحك أمّي وتنظر إلي، أرى غمّازتها الساحرة، وأنسى "رحمة ربّي" لفترة، إلى أن تستدعيها شقاوتنا من جديد.

صديقُنا يحيى الذي التهمه الوادي ومات، ذهب للفردوس ليكون رفقة نبي الله إبراهيم وزوجته سارة، هذا ما أخبرنا به شيخ الكُتَّاب، قال لنا بأنه الآن سعيد يرتع بذلك الجبل رفقة أطفال في مثل سنِّنا، وبأنّ النبي إبراهيم سيُعيده لوالديه يوم البعث. حسدْنا يحيى، ورغم صغر عُمرنا، رجونا الموت، لنذهب رفقته ونلهو ونلعب طيلة الوقت دون أن يُزعجنا تذمُّر الكبار، عندما طلبت النساء يومها "رحمة ربّي" اعتقدت أنّها الجنّية الطيّبة التي ستأخذنا إلى هُناك.

سأبتسم لها مُظهراً جانبي الأيسر، فقد ورثتُ منها تلك الغمّازة

لم نرَ الغُولة يومها، زارتنا أكثر من مرّة وفي أكثر من مناسبة، كانت ترتدي نفس الملابس وتظهر بنفس الهيئة، وجهُها يتغيّر قليلاً، دائماً ما كان اسمُها "رحمة ربّي"، إلى أن جاء لزيارتنا ضيوفٌ من مدينة كبيرة وبعيدة، ليُخبرني قريبي الذي كان في نفس سنّي، بأنه يعرف غُولة باسم "مدام شرويط"، ترتدي الكثير من الملابس بخيوط ملوّنة ومتدلّية، تُشبه حبّة بصل عملاقة بلا وجه، تخطف الأطفال عندما يفتعلون المشاكل في البيوت وتضعهم تحت لباسها الفضفاض لتُطعم أبناءَها الصغار جلدَهم. معقول أنّ للغولة أطفالاً أيضاً مثل أمّي! تطعمُهم وترضعهم كما تفعل كلّ النساء؟ وبحاجة للرّاحة هُم أيضاً! فيما يصرف الغيلان الصغار يومهم حتى يصيبهم التعب مثلنا؟ ويحكي لي أنّ خالته ذات مرّة ضحّت بنفسها وذهبت رفقتها، بيد أنها أخلت سبيلها بعد لحظات، إذ أشفقت لبكائهم، وتوعّدت بالرجوع إذا سمعت اشتكاء الكبار من شقاوتهم مجدّداً.

ومع توالي السنين عرفتُ أسماء أُخرى كثيرة لها، "طامزة"، التي تخيّلتها غُولةً بدينة حركتُها ثقيلة، في المدرسة سمعتُ قصة الغُولة الصغيرة التي تُسمَّى "حمرة الرجيلات"، قِيل لي بأنها بلا وجه وجسد، غُولة كُلّها قدمان صغيرتان لونُهما أحمر، كلون الحنّاء، تختبئ في كلّ ركن من البيت باحثة عن شقاوة الصِّبيان تتربّص بهم، وعندما يذهبون إلى النوم يسمعون خطواتها حولهم، لها القدرة على التخفّي تحت الوسائد والأغطية، تقتل الأطفال بالضغط على أعناقهم حدّ الاختناق، لكنّهم يعودون للحياة صباحاً، غارقين في تعَب الليلة المُنصرمة المليئة بالكوابيس. 

طحَنت السنين أيّام الطفولة وعجنتها مخلوطة بحكايا الغُولة وأسمائها، كلّ اسم كنتُ أرسم له وجهاً، في سنّ الثانية عشرة، في مواسم الصيف التي تغيب فيها الغُولة عنّا، كنّا نهيم بالخارج رفقة آبائنا تحت النُّجوم، تتعدّد الولائم من حفلات زفاف، ومناسبات اجتماع أفراد العوائل البعيدة، أمرح بالخارج رفقة أقراني مُبتعداً عن الحقل القريب من بيتنا، خائفاً من "رحمة ربّي" التي طردتها جدّتي يومها، نلعب الغُمّيضة لنختبئ، يهرب الجميع تحت أشجار المشمش بعيداً، وأبقى مختبئاً بأماكن يكشفها ضوءُ القمر، يقولون لي بأنني لا أُجيد الاختباء وأجعل من اللعب رفقتهم مُملّاً، أخبرتهم بأنني أخاف الاقتراب من مكان مبيتِ الغُولة، تنام بالحقل ليلاً، ليجيب ابن "فاطنة" جارتنا:

- أيها الأبله الصغير، أية غُولة تتحدّث عنها، في كلّ مرّة كنّا نرى الغولة، كانت واحدة من أمّهاتنا ونساء البيت. أتذكُر عشاء عقيقة شقيقي حسن، جاءت غولة تمشي كخالتي "إيطو"، لقد كانت هي الغُولة، متنكّرة بملابسها. وإذا سألتك الآن: لماذا لا تظهر لنا "رحمة ربّي" أيام الصيف؟
 
أجبته:

- ربّما تسافر رفقة صغارها للمدينة! للبحر مثلاً!

قال لي:

- لا، لا تُسافر إلى أيّ مكان، إنها مشغولة بالبيت، تعدّ طعاماً للضيوف! الغُولة هي أمّي وأمّك وخالاتنا وعمّاتنا… أمّا جداتنا فقد تقاعَدْن من تلك الحِرفة، يقُمن بدور البطولة بادعائهنّ طَرْدها. 

تلك الغُولة التي رأيتها، لم أرَ جلدها من قبل، ولم يكن عندي فضول معرفة لونه أو نوعه، فكلّ صُورها في ذهني التقطتها في جزء ضئيل من الثانية. ابن جارتنا "فاطنة" كان فضولياً بما يكفي ليهزم خوفه وينظر لفترة أطول، ليلاحظ أنّ الغُولة هي "إيطو"، لم أتخيّل أن تكون السيّدة التي تُطعمني بيديها، تغسل جسدي وتمشّط شعري بكلّ ذلك الحبّ والاهتمام "غُولة"، أحببتها بغبطة، وكرهت جدّتي ونساء البيت كلّهنّ ببُغض شديد، ولم أستطع سؤالها مُطلقاً.

بعد أن أقامت لي العرس وقمّطَت أبنائي ورعتهم في مرضهم، كما فعلت معي وأشقائي، وكلّ من تحب حولها من صغار، بعيداً عن رداء الغُولة وقصصها، ماتت كما يفعل الجميع، وسط فراشها الدافئ وهي محاطة بكلّ من تحبّ حولها. كنتُ قد بلغتُ سنّ الأربعين، لم أكن شابّاً ولا كهلاً أيضاً، كنت بينهما طفلاً يُودّع الغولة، حملتها فوق كتفي مع باقي الرجال، مررنا قرب حقل بيتنا الذي تبيتُ به "رحمة ربّي"، وضعناها داخل قبرها على جانبها الأيمن، أزحتُ الكفن على وجهها وقبلتها، فابتسمَت لي، لتظهر لي غمّازتها كوداع أخير، أخرجني عن طوري، ولا أذكر يومها كيف غادرت المقبرة.

جاء إمام الدوار إلى بيتنا ليلتها، قال لي مُوصياً بألّا أُطيل هذا الحِداد حتى لا أحرق قلبها، فروحُها ستجوب البيت لأربعين يوماً إضافياً حتى تطمئنّ على نفوسنا بأنها استكانت، وألفت ذلك الموت. طيلة تلك الأيام الأربعين كنتُ متربِّصاً بخيالها، وكلّما قالت زوجتي "سأندَهُ رحمة ربّي"، أرجوها أن تفعل، وتنظر لي بحيرة، أرجوها بخوف عظيم وحُمّى شوق بالقلب، تستجدي رؤية وجه أمي لمرّة أخيرة قبل انقضاء الأربعين. 

لم تعد "رحمة ربّي"، ولا حتى أمّي. تركتُ بيتي وزوجتي وكلّ شيء خلفي، باحثاً عنها، أعرفُ أنها تهاب الرّجال وتخافهم، لم أر رجلاً وغُولة في مكان واحد من قبل، الغُولة صديقة النساء والجُدران المُغلقة. سكنتُ الحقل المجاور للبيت، حلَقتُ نصف وجهي الأيسر، والنصف الآخر تركته حرّاً بِلحية خشنة حتى لا أفقد هيبتي وسط رجال الدّوار، ظنّوا أنّني جُننت، أمّا أنا فقد كنتُ أنتظر "رحمة ربّي"، لأُقبّلها، وآخذها معي أسفل الوادي لأَغسِل وجهها بيديَّ الاثنتين، لعلّني أجد الوجه الذي أشتاقه، حتى لو رفضَت الابتسام لي، سأبتسم لها مُظهراً جانبي الأيسر، فقد ورثتُ منها تلك الغمّازة.


* قاصّة من المغرب

نصوص
التحديثات الحية