يعدُّ شعب الغزّ واحداً من أكبر شعوب الأمّة التركية، وهو الشعب الذي أُطلق عليه بعد دخوله الإسلام اسم التركمان (ترك إيمان)، أي الترك المؤمنين، تمييزاً لهم عن شعوب الترك غير المسلمين، وهذا الشعب هو الذي سيطر على "العسكرتارية الإسلامية" مدة أكثر من 1200 عام، بدءاً من سلالة السلاجقة، وصولاً إلى السلالة العثمانية.
وأقدمُ خبر عن التواصل مع هذا الشعب التركي، حين كان قبيلة بدوية على حدود الصين، ما ذكره المؤرّخ أبو الحسن المدائني من أخبار الخليفة الأموي هشام بن عبد الملك (691 - 743 للميلاد)، الذي أرسل رجلاً إلى ملك الترك يدعوه إلى الإسلام، فدخل إليه، فوجده يتّكئ على سرج فرسه، فقال ذلك الملك للترجمان: من هذا؟ قال: رسول ملك العرب. فطلب من غلامه أن يسير به إلى بيت كثير اللحم قليل الخبز، ثم استدعاه وسأله عن بُغيته، فقال له إن صاحبي - يقصد هشام بن عبد الملك - يريد نصيحتك ويراك على ضلال ويحبّ لك الدخول في الإسلام، فقال ملك الترك: وما الإسلام؟ فأخبره بشرائطه وحظْره وإباحته وفروضه وعبادته، فتركه الملك أياماً ثم أخذه إلى معسكر فيه عشرة آلاف فارس مسلّح، وقال له: قل لصاحبك، يعني الخليفة، ليس بين هؤلاء حجّام ولا إسكاف ولا خياط، فإذا أسلموا والتزموا شروط الإسلام من أين يأكلون؟
وهذه القصة تشير إلى أن الغزّ الترك، في ذلك الوقت، كانوا شعباً مُحارباً يحترف القتال ولا شيء آخر، وقد ذكر أكثر من بلداني عربي أن الغزّ، أو التغزغز بصيغة أُخرى، هم أعراب الترك، أي أنهم البدو الترك الذين يعيشون في الخيام، ويرتحلون من مكان إلى آخر مع قطعانهم، وذلك لتمييزهم عن الترك الفلاحين أوالمتمدّنين، مثل البجاناك، والبلغار، والخرلخ، والهنغار والمجر، والقفجاق وغيرهم، رغم أن هذه الشعوب كانت تحترف التنقّل والترحال بحسب رحّالة آخرين.
مهمة دبلوماسية
ويمكن القول إن الرحّالة العربي الأقدم إلى بلاد الترك الغزّ، أو بصيغة أُخرى التغزغز، هو تميم بن بحر المطوعي، الذي قام برحلته في الفترة ما بين 760 إلى 800 للميلاد، بحسب تقديرات المستشرق الروسي الشهير فاسيلي بارتولد (1869 - 1930)، ومن اسمه يمكن القول إنه ينتمي لطائفة المتطوّعة، وهم جنود يتطوّعون للدفاع عن حدود الدولة الإسلامية لغاية دينية. وقد حفظ لنا ياقوت الحموي قطعة من هذه الرحلة، وكذلك فعل ابن الفقيه الهمذاني. ويقول صاحب "تاريخ الأدب الجغرافي العربي" المستشرق الروسي إغناتي كراتشكوفسكي (1883 - 1951)، إن "أهم قطعة من هذه الرحلة أمكن بوساطتها الاستدلال على شخصية المؤلّف، الذي ترجع إليه القطعتان مجهولتا المؤلّف في معجم ياقوت، وكتاب ابن خرداذبة؛ وبهذا، فإن الأخير هو أول جغرافي عربي يحفظ لنا وصف الطريق البري إلى الصين".
ويرى كراتشكوفسكي أن تأثيرات المطوعي على الجغرافيين العرب يمكن تتبعها عند "أبي دلف، وقدامة بن جعفر، وحتى عند الإدريسي"، مؤكّداً أن تميم المطوعي "هو أول عربي يمدّنا بمعلومات عن التغزغز تستند إلى معرفة مباشرة بهم في ديارهم، وهو إلى جانب الأخبار الطريفة عنهم وعن غيرهم من القبائل التركية الأُخرى، يصف لنا عاصمة التغزغز خانجو (KanChou) قرب طرفان (Turfan)".
ويضيف أن خبر "حجر المطر عند الترك" الذي ينقله تميم، دفع ياقوت للبحث عن مصادر أُخرى فصّلها ياقوت وتحدّث فيها عن طقوس دينية تركية قديمة تؤدّي إلى نزول المطر والثلج. ويشير كراتشكوفسكي إلى أن القطعة التي ينقلها الجغرافي ابن الفقيه الهمذاني تؤكّد أن تميم قد زار شعب الأويغور على نهر الأورخون قبل هجرتهم منه.
شعب الكيماك
ويبدو أن تميم زار في بداية رحلته بلاد الكيماك، حيث يقول إن عدد جنود الملك أقل من ألفين، "وهم بادية يبيعون الكلأ، فإذا وُلد للرجل ولدٌ ربّاه وعاله وقام بأمره حتى يحتلم، ثم يدفع إليه قوساً وسهاماً ويُخرجه من منزله ويقول له: احتَل لنفسك، ويُصيّره بمنزلة الغريب الأجنبي".
ويضيف: "ومنهم من يبيع ذكور ولده وإناثهم بما ينفقونه، ومن سنَّتهم أن البنات البكور مكشفات الرؤوس، فإذا أراد الرجل أن يتزوّج ألقى على رأس إحداهن ثوباً، فإذا فعل ذلك صارت زوجته لا يمنعها منه مانع".
ويقول المطوعي إن "بلدهم شديد البرد، وإنما يسلك فيه ستة أشهر في السنة"، ويضيف أنه سلك إلى بلاد خاقان التغزغزي على بريد أنفذه خاقان إليه، ولا نعرف أي خاقان الذي كلّفه بهذه المهمّة الدبلوماسية لدى خاقان التغزغز، والمرجّح أنه خاقان الخزَر الذي اعتاد العرب على إطلاق لقب الخاقان مجرّداً عليه.
وذكر المطوعي أنه كان يسير في اليوم والليلة ثلاث سكك بأشدّ سير وأحثّه. فسار عشرين يوماً في براري فيها عيونٌ وكلأ، وليس فيها قرية ولا مدينة غير أصحاب السكك، وهم نزول في خيام، وأنه كان قد حمل معه زاداً لعشرين يوماً، وذلك أنه عرف أمر تلك المدينة وأن مسافتها عشرون يوماً في براري فيها عيون وكلأ، ثم يقول إنه سار بعد ذلك عشرين يوماً في قرى متّصلة، وعمارات كثيرة، أهلها كلّهم أو أكثرهم أتراك، منهم عبدة النيران على مذهب المجوس، ومنهم زنادقة.
مدينة ملك التغزغز
ويقول المطوعي إنه بعد هذه الأيام، وصل إلى مدينة الملك، وذكر أنها مدينة عظيمة خصيبة، حولها رساتيق عامرة، وقرىً متصلة، ولها اثنا عشر باباً من حديد مُفرطة العِظم، ويضيف: "هي كثيرة الأهل والزحام والأسواق والتجارات، والغالب على أهلها مذهب الزنادقة. وأُقدّر المسافة ما بعدها إلى بلاد الصين ثلاثمئة فرسخ، وأظنّه أكثر من ذلك".
وحدّد المطوعي الجهات فقال: "إن على يمين مدينة ملك التغزغز تقع بلاد الترك لا يخالطهم غيرهم، وعن يسارها بلاد كيماك، وأمامها بلاد الصين"، وذكر أنه نظر قبل وصوله إلى المدينة بخمسة فراسخ إلى خيمة للملك من ذهب، على سطح قُطره تسعمئة رجل، وذكر أن خاقان التغزغز كان مصاهراً لملك الصين، وأن ملك الصين يحمل إليه في كل سنة خمسمائة ألف فرند، وهو نصل نادر من السيوف.
ويحدّثنا رحّالتنا عن بلاد نوشجان وهي في تخوم بلاد الترك على نهر سيحون بما وراء النهر، وهي قسمان، نوشجان السفلى ثلاثة فراسخ عن نوشجان العليا، ويقول: "بين النوشجان الأعلى وبين الشاش على مدينة طراز، أربعون مرحلة للقوافل، فمن سارها على دابة وكان منفرداً قطعها في شهر. ونوشجان الأعلى بها أربع مدن كبار وأربع صغار".
بحيرة مربعة
ويُشير إلى أنه أحصى المقاتلين في مدينة واحدة على شطّ بحيرة هناك، فميّزهم نحو عشرين ألف فارس بالسلاح التام، ويقول إنه ليس في جميع أجناس الترك أشدّ منهم، وأنهم إذا اجتمعوا مع الخرلخية، وهم شعب من الترك، لحرب، كان منهم مئة رجل ومن الخرلخية ألف رجل، وعلى هذا يخرجون في جميع حروبهم.
ويقول المطوعي عن البحيرة إنها "شبيهة بالحوض المربّع، وإن حولها جبالاً شامخة فيها من جميع أصناف الشجر، وهناك رسم مدينة قديمة لم أجد في الأتراك من يعرف خبرها ولا من بناها، ولا من كان أهلها، ولا متى خربت، وقد نظرت فيها إلى نهر يشقها لا يلحق غوره هناك. ورأيت فيه أنواعاً من الحيوانات البحرية ما رأيت مثلها. وكذلك رأيت بها طيوراً لم أرَ في شيء من البلدان مثلها".
ويضيف: "أهل النوشجان وغيرهم بها، يقدمون من المدن والقرى يطوفون بها في سنة مرة واحدة في أيام الربيع، ويجعلون ذلك عيداً"، ويذكر أن الماء يدخلها من ناحية التبت من مئة وخمسين نهراً كباراً وصغاراً، وكذلك من ناحية التغزغز والكيماك".
ملك وحوله القادة
أما ملك التغزغز فقد وجده حين ذهب إليه لتسليمه الرسالة من خاقان الخزر، على الأرجح، مُعسكِراً بالقرب من مدينته، وإنه قدَّر عدد جيشه الذي حول سرادقه دون غيرهم، فكانوا نحواً من اثني عشر ألف رجل.
وقال: "وبعد هؤلاء سبعة عشر قائداً مع كل قائد ثلاثة آلاف. وبين القائد والقائد مصالح من خيام. والقُواد ومن معهم من المصالح بأجمعهم محيطون بالعسكر، ولهم في إحاطتهم فرجة يكون مقدارها أربعة أبواب إلى ناحية العسكر. وجميع دواب الملك ودواب الجند ترعى في ما بين سرادق الملك ومواضع القوّاد لا تتخلّص منها دابة إلى خارج العسكر".
ويذكر المطوعي أن الطريق من مدينة طراز إلى قريتين في موضع يقال له كواكب عامرتين آهلتين، ومسافتهما من طراز سبعة فراسخ. ومن هذا الموضع مُلك كيماك مسيرة ثمانين يوماً للفارس المُجدّ يحمل معه زاده، وأن جميع ذلك صحارى وبرار ومفاوز واسعة كثيرة الكلأ والعيون.
ويضيف أن في هذا الموضع مراعي الكيماكية، وأنه سلك وحده هذه الطريق ووجد ملك كيماك مع عسكره في خيام وبقربه قرى وعمارات، وأنه ينتقل من موضع إلى موضع يتبع الكلأ، وأن دوابهم كثيرة دقيقة الحوافر، وأنه قدّر عدد من في عسكره فوجدهم نحو عشرين ألف فارس.
أعجوبة حجر المطر وتحقيقها
وينقل ابن الفقيه عن تميم المطوعي قوله إن "من عجائب بلد الترك حصى عندهم يستمطرون به ما شاؤوا من مطر وثلج وبرد وغير ذلك. وأمر هذا الحصى عندهم مشهور مستفيض لا ينكره أحد من الأتراك. وهو عند ملك التغزغز خاصة ليس يوجد عند أحد من ملوكهم غيره".
ويبدو أن ياقوت الحموي قد لفت نظره خبر الحجر الذي يَستمطر به الترك، فأراد تحقيق الأمر عبر جمع روايات حول هذه الظاهرة الطبيعية الغريبة، التي كان يعزوها الناس في ذلك الوقت إلى قوى خارقة. وقد نقل أحمد بن محمد الهمذاني عن أبي العباس عيسى ابن محمد المروزي خبراً قال فيه: "رأيت داود بن منصور بن أبي علي الباذغيسي، وكان رجلاً صالحاً قد تولّى خراسان، فحمد أمره بها، وقد خلا بابن ملك الترك الغُزّية، وكان يقال له بالقيق بن حيّويه، فقال له: بلغنا عن الترك أنهم يجلبون المطر والثلج متى شاؤوا، فما عندك في ذلك؟ فقال: الترك أذلّ عند الله من أن يستطيعوا هذا الأمر، والذي بلغك حقّ ولكن له خبر أحدّثك به: كان بعض أجدادي راغم أباه، وكان الملك في ذلك العصر قد شذّ عنه واتّخذ لنفسه أصحاباً من مواليه وغلمانه وغيرهم ممن يحبّ الصعلكة، وتوجّه نحو شرق البلاد يُغير على الناس ويصيد ما يظهر له ولأصحابه، فانتهى به المسير إلى بلد ذكر أهله أن لا منفذ لأحد وراءه، وهناك جبل".
ويتابع ابن ملك الترك: "قالوا: إنّ الشمس تطلع من وراء هذا الجبل، وهي قريبة من الأرض جدّاً، فلا تقع على شيء إلا أحرقته، أوليس هناك ساكن ولا وحش؟ قالوا: بلى، قال: فكيف يتهيّأ لهم المقام على ما ذكرتم؟ قالوا: أما الناس فلهم أسراب تحت الأرض وغيران في الجبال، فإذا طلعت الشمس بادروا إليها واستكنوا فيها حتى ترتفع الشمس عنهم فيخرجون، وأما الوحوش فإنها تلتقط حصى هناك قد أُلهمت معرفته، فكلّ وحشيّة تأخذ حصاة بفيها وترفع رأسها إلى السماء فتظلّلها وتبرز عند ذلك غمامة تحجب بينها وبين الشمس، قال: فقصد جدي تلك الناحية فوجد الأمر على ما بلغه، فحمل هو وأصحابه على الوحوش حتى عرف الحصى والتقطه، فحملوا منه ما قدروا عليه إلى بلادهم، فهو معهم إلى الآن، فإذا أرادوا المطر حرّكوا منه شيئاً يسيراً فينشأ الغيم فيوافي المطر، وإن أرادوا الثلج والبرد زادوا في تحريكه فيوافيهم الثلج والبرد، فهذه قصتهم، وليس ذلك من حيلة عندهم، ولكنه من قدرة الله تعالى".
رواية الساماني
وينقل ياقوت عن إسماعيل بن أحمد الساماني، أمير خراسان، قوله: "غزوت الترك في بعض السنين في نحو عشرين ألف رجل من المسلمين، فخرج إليّ منهم ستّون ألفاً في السلاح الشاك، فواقعتهم أياماً، فإني ليوما في قتالهم إذ اجتمع إليّ خلق من غلمان الأتراك وغيرهم من الأتراك المستأمنة (أي المسلمين)، فقالوا لي: إن لنا في عسكر الكفرة قرابات وإخواناً، وقد أنذرونا بموافاة فلان، قال: وكان هذا الذي ذكروه كالكاهن عندهم، وكانوا يزعمون أنه ينشئ سحاب البرد والثلج وغير ذلك، فيقصد بها من يريد هلاكه، وقالوا: قد عزم أن يمطر على عسكرنا برداً عظاماً لا يصيب البرد إنساناً إلّا قتله، قال: فانتهرتُهم وقلت لهم: ما خرج الكفر من قلوبكم بعد، وهل يستطيع هذا أحد من البشر؟ قالوا: قد أنذرناك وستعلم غداً عند ارتفاع النهار، فلما كان من الغد وارتفاع النهار، نشأت سحابة عظيمة هائلة من رأس جبل كنت مستنداً بعسكري إليه، ثم لم تزل تنتشر وتزيد حتى أظلّت عسكري كلّه، فهالني سوادُها وما رأيت منها وما سمعت فيها من الأصوات الهائلة، وعلمتُ أنها فتنة".
صلاةٌ لردّ اللعنة
ويتابع أمير خراسان قوله: "فنزلتُ عن دابّتي وصلّيت ركعتين وأهل العسكر يموج بعضهم في بعض، وهم لا يشكّون في البلاء، فدعوت الله وعفرت وجهي في التراب، وقلت: اللهم أغثنا فإن عبادك يضعفون عن محنتك وأنا أعلم أن القدرة لك وأنه لا يملك الضرّ والنّفع إلا أنت، اللهم إن هذه السحابة إن أمطرت علينا كانت فتنة للمسلمين وسطوة للمشركين، فاصرف عنا شرّها بحولك وقوّتك يا ذا الجلال والحول والقوة. قال: وأكثرت الدعاء ووجهي على التراب رغبة ورهبة إلى الله تعالى، وعلماً أنه لا يأتي الخير إلا من عنده ولا يصرف السوء غيره، فبينما أنا كذلك، إذ تبادر إليّ الغلمان وغيرهم من الجند يبشرونني بالسلامة، وأخذوا بعضدي ينهضونني من سجدتي ويقولون: انظر أيها الأمير، فرفعت رأسي فإذا السحابة قد زالت عن عسكري وقصدت عسكر الترك تمطر عليهم برَداً عظاماً، وإذا هم يموجون، وقد نفرت دوابهم وتقلّعت خيامهم، وما تقع بردة على واحد منهم إلا أوهنته أو قتلته، فقال أصحابي: نحمل عليهم؟ فقلت: لا، لأن عذاب الله أدهى وأمرّ، ولم يفلت منهم إلا القليل، وتركوا عسكرهم بجميع ما فيه وهربوا، فلما كان من الغد، جئنا إلى معسكرهم فوجدنا فيه من الغنائم ما لا يوصف، فحملنا ذلك، وحمدنا الله على السلامة وعلمنا أنه هو الذي سهّل لنا ذلك وملكناه". ويعلّق ياقوت على ذلك بقوله: "هذه أخبار سطّرتها كما وجدتها، والله أعلم بصحّتها".