تعد شهادة الرحالة الأندلسي أبو الحسن محمد بن أحمد بن جبير الكناني الأندلسي الشاطبي البلنسي، الشهير باسم ابن جبير، حول مصر غاية في الأهمية، لأنها تتحدث عن مرحلة ذهبية من الاستقرار والازدهار قلما حظيت بها مصر عبر تاريخها الطويل، وهي مرحلة حكم السلطان صلاح الدين الأيوبي.
وقد قام ابن جبير بثلاث رحلات إلى الشرق، ودوّن أخبار الرحلة الأولى، التي استغرقت أكثر من ثلاث سنوات، في نص أشبه بالمذكرات اليومية، التي نالت شهرة عالمية لم تدانها شهرة أي رحلة أخرى من الرحلات التي تعتمد هذا الأسلوب، وكان ذلك بعد عودته إلى الأندلس في العام 581 للهجرة، ولها عنوانان: (كتاب اعتبار الناسك في ذكر الآثار الكريمة والمناسك) و(تذكرة الأخبار عن اتفاقات الأسفار).
وُلد ابن جبير في بلنسية بـ الأندلس بين عامي 539 و540 هـ، 1145م، وقد شغف أول ما شغف بعلوم الدين فسمعها من أبيه في شاطبة، وأخذ القرآن عن أبي الحسن بن أبي يعيش.
ونجد أن الرحلة جاءت حافلة بالمشاهد والتجارب التي اكتسبها في أثناء تجواله في عجائب البلدان والمدن، ورؤيته لغرائب المشاهد واطلاعه على الشؤون والأحوال السياسية والاجتماعية والأخلاقية والتي كانت سائدة في تلك الفترات.
وقد استرعت هذه الرحلة اهتمام المستشرقين لما لها من قيمة نفيسة، فترجموا أول شيء القسم المختص بصقلية إلى الفرنسية وطبع في عام 1846، ثم طبعت الرحلة كلها للمرة الأولى في لندن عام 1852 بإضافة مقدمة لها وضعها المستشرق وليم رايت ثم أعيد طبعها أيضا عام 1907 مع ترجمة لمؤلفه.
وفي عام 1936 صدرت في القاهرة الطبعة العربية الأولى للرحلة بتحقيق الدكتور محمد مصطفى زيادة، وهي الطبعة التي أخذت عنها جميع الطبعات العربية اللاحقة.
وتعد الأوصاف التي كتبها عن مصر غاية في الأهمية لأنه كان شاهداً على بناء القلعة والسور والقناطر. أي المرحلة التي أصبحت فيها القاهرة مدينة كبرى وعاصمة للشرق كله وما تزال، حيث استغل صلاح الدين وجود مئات آلاف الأسرى من الفرنجة الصليبيين لكي يبني بسواعدهم الأوابد التي تعرف اليوم بالأوابد الأيوبية.
امتداح الإسكندرية
انطلق ابن جبير في رحلته يوم الاثنين في التاسع عشر من شهر شوال سنة 578 هجرية (14 فبراير 1183م) مع صديق له اسمه أحمد بن حسان، وكان من أهل الطب والعلم والأدب، فعبرا البحر إلى سبتة حيث ركبا سفينة جنوية أقلتهما إلى الإسكندرية، حيث لاحت له منارة الإسكندرية على نحو العشرين ميلاً، فهبطوا في مرسى المدينة يوم السبت التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة (26 آذار/ مارس).
وقد امتدح الإسكندرية كثيراً حيث قال: "ما شاهدنا بلداً أوسع مسالك منه ولا أعلى مبنى ولا أعتق ولا أحفل منه. وأسواقه في نهاية من الاحتفال أيضاً. ومن العجب في وصفه أن بناءه تحت الأرض كبنائه فوقها وأعتق وأمتن، لأن الماء من النيل يخترق جميع ديارها وأزقتها تحت الأرض فتتصل الآبار بعضها ببعض ويمد بعضها بعضاً. وعاينا فيها أيضاً من سواري الرخام وألواحه كثرة وعلواً واتساعاً وحسناً مالا يتخيل بالوهم، حتى انك تلفي في بعض الممرات بها سواري يغص الجو بها صعوداً لا يدرى ما معناه ولا لم كان أصل وضعها".
ويصف لنا ابن جبير منارة الإسكندرية التي دمرها زلزال العام 1303 م في عهد السلطان الناصر محمد بن قلاوون، فيقول إنها من أعظم ما شاهده من عجائب الإسكندرية التي تظهر على أزيد من سبعين ميلاً في البحر وتعد ـهم هداية للمسافرين. ويقول إن مبناها "في غابة العتاقة والوثاقة طولاً وعرضاً، يزاحم الجو سمواً وارتفاعاً، يقصر عنه الوصف وينحسر دونه الطرف، الخبر عنه يضيق والمشاهدة له تتسع. ذرعنا أحد جوانبه الأربعة فألفينا فيه نيفاً وخمسين باعاً ويذكر أن في طوله أزيد من مئة وخمسين قامة. وأما داخله فمرأى هائل، اتساع معارج ومداخل وكثرة مساكن، حتى أن المتصرف فيها والوالج في مسالكها ربما ضل". ويلفت النظر إلى وجود مسجد في أعلى المنارة يتبرك الناس بالصلاة فيه، وطلعنا إليه يوم الخميس الخامس لذي الحجة وصلينا في المسجد المبارك المذكور".
مدارس الطب
ويتابع ابن جبير وصف محاسن الإسكندرية فيتحدث عن مدارس الطب فيها قائلاً: "من مناقب هذا البلد ومفاخره العائدة في الحقيقة لسلطانه (صلاح الدين)؛ المدارس والمحارس الموضوعة فيه لأهل الطب والتعبد، يفدون من الأقطار النائية فيلقى كل واحد منهم مسكناً يأوي إليه ومدرساً يعلمه الفن الذي يريد تعلمه وإجراء يقوم به في جميع أحواله. واتسع اعتناء السلطان بهؤلاء الغرباء الطارئين حتى أمر بتعيين حمامات يستحمون فيها متى احتاجوا ذلك، ونصب لهم مارستاناً لعلاج من مرض منهم، ووكل بهم أطباء يتفقدون أحوالهم، وتحت أيديهم خدام يأمرونهم بالنظر في مصالحهم التي يشيرون بها من علاج وغذاء. وقد رتب أيضاً فيه أقوام برسم الزيارة للمرضى الذين يتنزهون عن الوصول للمارستان المذكور من الغرباء خاصة، وينهون الأطباء أحوالهم ليتكفلوا بمعالجتهم".
وبعد ذلك يتحدث عن قيام السلطان صلاح الدين بتعيين مخصصات يومية لأبناء السبيل من المغاربة، خبزتين لكل إنسان في كل يوم بالغاً ما بلغوا، وقال إنه عين شخصاً أميناً من قبله لتوزيع الخبز. وذكر أن عدد الخبزات التي توزع يومياً "يصل إلى أكثر من ألفي خبزة أو أزيد بحسب القلة والكثرة، وهكذا دائماً، ولهذا كله أوقاف من قبله حاشا ما عينه من زكاة العين لذلك. وأكد على المتولين لذلك متى نقصهم من الوظائف المرسومة شيء أن يرجعوا صلب ماله".
الطريق إلى القاهرة
يغادر ابن جبير الإسكندرية إلى القاهرة في صبيحة يوم الأحد الثامن لذي الحجة المذكور، وهو الثالث لإبريل، فكانت محطتهم الأولى في دمنهور، التي يصفها بأنها بلدة مسورة في بسيط من الأرض، متصل من الإسكندرية إلى مصر. والبسيط كله محرث يعمه النيل بفيضه، والقرى فيه يميناً وشمالاً لا تحصى كثرة. ثم في اليوم الثاني وهو يوم الاثنين، يعبر ابن جبير وصحبه جسراً ويصلون موضع يعرف ببرمة فيبيتون بها، ثم طندته [طنطا]، وهي من القرى الفسيحة الآهلة، ثم بسبك وكان مبيتهم بها. ثم وصلوا إلى مليج وبعدها قليوب على ستة أميال من القاهرة فيها الأسواق الجميلة ومسجد جامع كبير حفيل البنيان، كما قال، ثم بعده المنية، ثم القاهرة حيث نزل بفندق أبي الثناء في زقاق القناديل بمقربة من جامع عمرو بن العاص، رضي الله عنه، في حجرة كبيرة على باب الفندق المذكور.
المشهد الحسيني وسور المدينة
يبدأ ابن جبير بوصف القاهرة من المشهد الحسيني العظيم الشأن الذي حيث رأس الحسين بن علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، ويقول: "هو في تابوت فضة مدفون تحت الأرض قد بني عليه بنيان حفيل يقصر الوصف عنه ولا يحيط الإدراك به، مجلل بأنواع الديباج، محفوف بأمثال العمد الكبار شمعاً أبيض ومنه ما هو دون ذلك، قد وضع أكثرها في أتوار فضة خالصة ومنها مذهبة، وعلقت عليه قناديل فضة، وحف أعلاه كله بأمثال التفافيح ذهباً في مصنع شبيه الروضة يقيد الأبصار حسناً وجمالاً، فيه من أنواع الرخام المجزع الغريب الصنعة البديع الترصيع مالا يتخيله المتخيلون ولا يلحق أدنى وصفه الواصفون. المدخل لهذه الروضة على مسجد على مثالها في التأنق والغرابة، حيطانه كلها رخام على الصفة المذكورة، وعن يمين الروضة المذكورة وشمالها بيتان من كليهما المدخل إليها وهما أيضاً على تلك الصفة بعينها. والأستار البديعة الصنعة من الديباج معلقة على الجميع".
ويضيف قائلاً: "من أعجب ما شاهدناه في دخولنا هذا المسجد المبارك حجر موضوع في الجدار الذي يستقبله الداخل شديد السواد والبصيص، يصف الأشخاص كلها كأنه المرآة الهندية الحديثة الصقل. وشاهدنا من استلام الناس للقبر المبارك، وأحداقهم به وانكبابهم عليه وتمسحهم بالكسوة التي عليه وطوافهم حوله مزدحمين باكين متوسلين الله سبحانه وتعالى ببركة التربة المقدسة، ومتضرعين إلى ما يذيب الأكباد ويصدع الجماد. والأمر فيه أعظم، ومرأى الحال أهوال، نفعنا الله ببركة ذلك المشهد الكريم. وإنما وقع الإلماع بنبذة من صفته مستدلاً على ما وراء ذلك إذا لا ينبغي لعاقل أن يتصدى لوصفه لأنه يقف موقف التقصير والعجز. وبالجملة فما أظن في الوجود كله مصنعاً أحفل منه، ولا مرأى من البناء أعجب ولا أبدع، قدس الله العضو الكريم الذي فيه بمنه وكرمه".
ثم يصف لنا القلعة التي كانت في مرحلة الإنشاء فيقول إن السلطان صلاح الدين يريد أن يتخذها موضع سكناه، ويمد سورها حتى ينتظم بالمدينتين مصر والقاهرة. والقاهرة هي ما تعرف اليوم بالقاهرة القديمة المعزية وكانت في ذلك الزمن متميزة عن مدينة مصر التي تمثل الفسطاط القديمة وما يحيط بها.
ويقول ابن جبير إن المسخرين في هذا البنيان والمتولين لجميع امتهاناته ومؤونته العظيمة، كنشر الرخام ونحت الصخور العظام وحفر الخندق المحدق بسور الحصن المذكور، هم العلوج الأسارى من الروم، وعددهم لا يحصى كثرة، ولا سبيل أن يمتهن في ذلك البنيان أحد سواهم، كما يقول.
ثم يحدثنا عن المشفى الذي أنشأه السلطان بمدينة القاهرة. حيث يقول إنه "قصر من القصور الرائقة حسناً واتساعاً أبرزه لهذه الفضيلة تأجراً واحتساباً وعين قيماً من أهل المعرفة وضع لديه خزائن العقاقير ومكنه من استعمال الأشربة وإقامتها على اختلاف أنواعها. ووضعت في مقاصير ذلك القصر أسرة يتخذها المرضى مضاجع كاملة الكسى. وبين يدي ذلك القيم خدمة يتكفلون بتفقد أحوال المرضى بكرة وعشية، فيقابلون من الأغذية والأشربة بما يليق بهم".
ويشير إلى وجود قسم للنساء المرضى، ولهن أيضاً من يكفلهن. ثم يتحدث عن موضع ثالث في هذا المشفى متسع الفناء فيه مقاصير عليها شبابيك الحديد اتخذت محابس للمجانين. ويقول إن لهم أيضاً من يتفقد في كل يوم أحوالهم ويقابلها بما يصلح لها. ويذكر أن السلطان يتطلع هذه الأحوال كلها بالبحث والسؤال ويؤكد على الاعتناء بها والمثابرة عليها غاية التأكيد. ويؤكد وجود مشفى آخر بمدينة مصر (الفسطاط) على مثل ذلك الرسم بعينه.
تكريم للمغاربة
يخبرنا ابن جبير أن السلطان صلاح الدين جعل المسجد الكبير المنسوب إلى أبي العباس أحمد بن طولون، مأوى للغرباء من المغاربة يسكنونه ويحلقون فيه، وأجرى عليهم الأرزاق في كل شهر. مؤكداً أن "السلطان جعل أحكامهم إليهم ولم يجعل يداً لأحد عليهم. فقدموا من أنفسهم حاكماً يمتثلون أمره ويتحاكمون في طوارئ أمورهم عنده، واستصحبوا الدعة والعافية، وتفرغوا لعبادة ربهم، ووجدوا من فضل السلطان أفضل معين على الخير الذي هم بسبيله".
ثم يعدد رحالتنا بعض المرافق التي أنشأها صلاح الدين في مصر والقاهرة، ومنها مدارس لتعليم أبناء الفقراء والأيتام خاصة تجرى عليهم فيها الجراية الكافية لهم. والقناطر التي شرع في بنائها بغربي مدينة مصر (الفسطاط) قرب الجيزة، وعلى مقدار سبعة أميال منها، بعد رصيف أبتدئ به من حيز النيل بإزاء مدينة مصر؛ حيث يصفه بأنه أشبه بجبل ممدود على الأرض، تسير فيه مقدار ستة أميال حتى يتصل بالقنطرة المذكورة، وهي نحو الأربعين قوساً من أكبر ما يكون من قسي القناطر. ويشير إلى أن القنطرة متصلة بالصحراء التي يفضي منها الإسكندرية.
وصف الأهرامات وأبي الأهوال
ثم يصف لنا الأهرامات "المعجزة البناء، الغريبة المنظر، المربعة الشكل، كأنها القباب المضروبة قد قامت في جو السماء، ولا سيما الاثنين منها، فإنهما يغص الجو بهما سمواً، في سعة الواحد منها من أحد أركانه الركن الثاني ثلاث مئة خطوة وست وستون خطوة. قد أقيمت من الصخور العظام المنحوتة. وركبت تركيباً هائلاً بديع الإلصاق دون أن يتخللها ما يعين على إلصاقها، محددة الأطراف في رأي العين، وربما أمكن الصعود إليها على خطر ومشقة فتلفى أطرافها المحددة كأوسع ما يكون من الرحاب، لو رام أهل الأرض نقض بنائها لأعجزهم ذلك".
ويشير إلى أن الناس مختلفون بشأنه لا يعلمون ما هي، فمنهم من يجعلها قبوراً لعاد وبنيه، ومنهم من يزعم غير ذلك. وبالجملة فلا يعلم شأنها إلا الله عز وجل، كما يقول. ويصف لنا تمثال أبي الهول قائلا: "على مقربة من هذه الأهرام بمقدار غلوة صورة غريبة من حجر قد قامت كالصومعة على صفة آدمي هائل المنظر، وجهته الأهرام وظهره القبلة مهبط النيل، تعرف بأبي الأهوال".