قام الأديب والصحافي والمؤرخ السوري الشهير محمد كرد علي (1876- 1953)، صاحب جريدة "المقتبس"، برحلة كبرى في بلاد الشام عام 1911، شملت الأقاليم التي كانت تعاني من التهميش والفساد خارج اهتمام الصحافة، للوقوف على أحوالها، وبحث أسباب تخلفها وهجرة أهلها إلى الأميركتين، فزار من جملة ما زاره أقاليم السفح الشرقي لجبل الشيخ، وكتب عنها كما لم يكتب أحد قبله من رحالة وصحافيي البلاد، علماً أن هذه المناطق أشبعت بحثاً ودرساً من جانب الرحالة والمستكشفين الغربيين قبل رحلة كرد علي بمائة عام، كونها كانت مرشحة للاستيطان اليهودي الذي كان يشغل بعض الدوائر الصهيونية الأوروبية، منذ أواسط القرن التاسع عشر.
في وادي العجم وإقليم البلان
ركب محمد كرد علي ورفيق له العربة من دمشق بعد ظهر الخميس 13 نيسان/ إبريل 1911 قاصداً قطنا، مركز قضاء وادي العجم، فبات ليلته فيها، ومن هناك ركب الخيل "في يوم انقطعت أمطاره ولم تنقطع رياحه وذارياته"، وقصد إقليم البلان، بصحبة دليل، على أن يعبر منه إلى الجولان. ووصل إلى قرية بيتيما التي تخطاها وصاحبه ليجتازوا نهرها إلى كفر حور، لكن غزارة مياه النهر حالت دون عبورهم، فعادوا أدراجهم إلى بيتيما وقضوا فيها ليلتهم الثانية.
وحول وادي العجم وإقليم البلان يقول: "ليس في هذا الوادي والإقليم ما يستحق الذكر من الأمور التاريخية والأثرية، فقد سكت التاريخ عن ذكر حالته في الأزمان القديمة (..) اللهم إلا ما كان من ذكر نهر وادي العج الأعظم، المسمى بنهر الأعوج، والمعروف في التوراة باسم فرفر أو فرفار أو فرفور".
ويضيف: "هذا النهر يتكون من عدة عيون ومسايل تنبعث من سفوح جبل الشيخ، منها عين في بيت جن، ومن ينبوع آخر اسمه المنبج، وأم الشراطيط، ووادي الدهامية، وعين الطموسية، وعين الطبيبية، وهي أجود تلك العيون، تُحسِّن ماءه كما يحسن ماء عين الفيجة مياه نهر بردى باختلاطه بها، وهكذا تجري إليه عشرات من العيون ومنها بيتيما وعيون عرنة".
ويشير إلى أنه صادف آثاراً قديمة من عهود الآراميين والرومانيين واليونانيين، مثل آثار بيتيما، وكفر حور، وكفر قوق، وسحيتا، وقال إنه شاهد في أرض كفر حور أربعة نواويس عظيمة نقرت على الصخر، على صورة هائلة تدل على أنها مدافن أغنياء وأمراء، لا مقابر فلاحين فقراء.
وحين قام كرد علي برحلته هذه (1911) كانت وتيرة الهجرة إلى أمريكا على أشدها، فلاحظ أن النفوس قليلة في هذين الإقليمين (وادي العجم وإقليم البلان)، ولا تزيد في الإحصاء الرسمي عن خمسة عشر ألف نسمة. يقول: "مع أن البلاد تؤوي مائتي ألف وأكثر، ترى الهجرة أيضاً إلى أميركا تقلل نفوسها سنة عن سنة. وسكان هذه البلاد أخلاط بمذاهبهم، فيهم المسلمون السنة، ومسيحيون روم وكاثوليك وبروتستانت، ودروز، والدروز أكثرهم مضاءً وإقداماً على العمل، ويليهم المسيحيون ثم المسلمون، فكأن هؤلاء (يقصد المسلمين) يكفيهم من المفاخر أن تكون حكومتهم منهم، ولذلك جعلوا اعتمادهم عليها، وكان عليهم أن يعولوا على تماسكهم ومضائهم، كما فعل جيرانهم في اعتمادهم على أنفسهم".
الجولان والقنيطرة
في اليوم الثالث من الرحلة و"كان معتل النسيم صافي الأديم"، كما يقول، ساروا إلى قرية جباتا الخشب، فباتوا في بيت الزعيم الوطني أحمد مريود، ومن هناك توجهوا إلى القنيطرة قاعدة الجولان.
وبعد أن يقدم تلخيصاً لتاريخ الجولان وموقعه الجغرافي، معتمداً على مراجع عربية وأجنبية، يقول: "ولعل علماء الآثار يوفقون في المستقبل إلى الظفر بعاديات لغسان في الجولان، كما ظفروا بقليل منها في حوران، ولا سيما في جبل بني هلال الذي كان يعرف قديماً بجبل الريان لكثرة مياهه، ويعرف اليوم بجبل حوران، أو جبل الدروز، لأن الغساسنة ملكوا هذه الديار، وبسطوا سلطانهم أيضاً على دمشق قبل الإسلام، وافتتح الجولان شرحبيل بن حسنة وورد ذكرها في شعر حسان بن ثابت".
وفي حديثه عن مدينة القنيطرة يقول: "إنها قاعدة الجولان اليوم". ويلفت الأنظار إلى أنها كانت صغيرة جداً "قبل أن ينزلها مهاجرة الجراكسة والداغستانيين منذ زهاء ثلاثين سنة". ويضيف قائلاً: "الجولان اليوم أو قضاء القنيطرة هو ثلاث نواح، ناحية الشعراء؛ وهي عبارة عن مجدل شمس، وجباتا الزيت، وبانياس، وعين قنية، وعين فيت، وزعورة، ومغر الشباعنة، والغجر، وخان الدوير، ومزارع الفضل. هذا ما كان منها إلى جبل الشيخ أقرب. وناحية الجولان؛ وفيها قرى الجركس، وأهمها المنصورة، وعين الزيوان، والصرَّمان، والخشنية، وعشيرة التركمان ومزارعها، وعشيرة الهوادجة، والبجاترة، وجبا وخان أرينبة، وعشيرة الويسية، والقصيرين، والجعاتين، والذياب، وأراضي البطيحة ومزارعها، ونعيمات الطاعة. ولهذه العشائر مزارع وقرى تفلح فيها وتزرع. والناحية الثالثة؛ ناحية الزوية وأهم قراها: فيق، والعال، وكفر الما، والشجرة، وكوية، وبيت الرَّا، ومعربة، والمناظرة".
همة الشراكسة
ويقدّر كرد علي عدد مزارع الجولان وقراه بنحو مائة وستين مزرعة وقرية، ويقول: "فيها أراضٍ جيدة في الجملة وتجود حبوبها في الأكثر في السنين التي تقل أمطارها، أما في سني الري الكثير فإنها تغرق، فبينا تشكو الأقاليم المجاورة الشَرَق تئن الجولان من الغَرَق، ولذلك تصلح أراضيها لتربية الماشية كثيراً، ولا نغالي إذا قلنا إنها الإقليم الوحيد الذي يصلح لهذا الغرض، كما يصلح سهل الهوات في ولاية أضنة من بلاد الأناضول أو الروم، كما كان يسميها العرب".
ويلفت النظر إلى برود همة الفلاح الجولاني بسبب عدم امتلاكه الأرض، نظراً لأن نظام المشاع هو السائد، بينما يلاحظ أن الشراكسة أكثر حماساً للزراعة بسبب تخصيص أرض لكل منهم تناسب حاله وشأنه، "فأصلحها ما ساعدته مادته وقوته وخدمها على مثل ما تخدم الزراعة في البلاد التي هاجر منها، أي بلاد الروس اليوم، وبنى البيوت بالحجر والقرميد، وغرس الأشجار، وعاش في الجملة أحسن من عيشة سكان البلاد الأصليين، خصوصاً وأن المهاجرين يغلب عليهم الاقتصاد، بحيث لا تعهد عندهم المضافات المفتحة الأبواب لكل قادم، كما هي عند سكان هذه الديار من العرب، وأكثرهم يعرفون دخلهم وخرجهم. ولو سار الجولانيون الأصليون على هذه الطريقة لحمدوا سيرهم، ولما افتقر الأغنياء منهم بإسرافهم إسرافاً لا يعد من الكرم في شيء، وبعبارة أوضح لا يعد فضيلة".
قبيلة الفضل وأميرها
حول أراضي قبيلة الفضل يقول: "أراضي الفضل تمتد من المنصورة قرب القنيطرة جنوباً، حتى بانياس شمالاً وشرقاً إلى جباتا الخشب، وغرباً إلى الحولة، ولا يطوفها الراكب بالسير المعتدل في أقل من ثلاثة أيام. غلاتها جيدة وفيها بعض الأشجار المثمرة والكروم وكثير من الغابات اجتزناها من الغرب من مركز القضاء إلى أرض بانياس في زهاء أربع ساعات، فرأينا فيها صورة مصغرة من مناخ سورية، رأينا فيها الربيع والصيف، أو الصيف والشتاء في آن واحد. وأميرها هو اليوم محمود الفاعور مالك هذه الأراضي كلها، إذا شتا في أرضه بالقرب من الحولة، يشتو في حرارة كحرارة الربيع، وإذا اصطاف يصطاف في الأرض النجدية، وإذا ارتبع يرتبع في واسط حيث بنى قصره على مثال قصور الأغنياء".
ويضيف: "هذا الأمير حاكم مطلق في عشيرته، عرب الفضل المؤلفة من نحو 1500 بيت كما قال لي أحد أفرادها، ولا يشاركه في ملكها سوى شيخ الهوادجة وبعض البحاترة، وهم عبارة عن 180 بيتاً يملكون جزءاً صغيراً منها، ومن عشائر الفضل: العجارمة والربيع والفاعور، ويجمعها كلها اسم الفضل، وكلهم رحالة أو متنقلون، ولكن رحلتهم في أرضهم لا يتعدونها إلى القاصية، كما يرحل عرب بني صخر والروالة مثلاً. وأميرهم يدفع ما على أراضيه من الأعشار الخفيفة، وجماعته معفون من الخدمة العسكرية، ليسوا مع أميرهم كصاحب أرض مع فلاحيه على ما هي عليه الحال مثلاً في الغوطة والمرج وقلمون ووادي العجم والجولان، يخدمون أرضه ويقاسمهم غلاتها على الخمس أو الربع، بل هو الحاكم المتحكم في أموالهم ومائهم وأعراضهم، يأخذ ما يمكنه أخذه منهم، وينفقه في وجوه مرافقه والتوسعة على ضيفانه".
ويتحدث كرد علي عن الفساد الإداري الذي يعانيه هذا الإقليم "لأن الحكومة لا تختار على الغالب لولاية أعمالها سوى من قلت كفاءتهم في الجملة"، كما يقول. ويشير إلى قيام صديقه أحمد حمدي أفندي الداغستاني بإنشاء مطبعة في القنيطرة سماها مطبعة الجولان، متمنياً أن يحالفه التوفيق وأن ينتفع من نعمة الحرية في عهد الدستور، وفعلاً فقد أصدر أحمد حمدي هذا جريدة أطلق عليها اسم الجولان في ذلك العام.
بات كاتبنا ليلته السادسة في بانياس، آخر عمل الجولان، ويقول إنها ينبغي أن تكون من عمل الحولة إذا نظرنا إلى تقسيمها الطبيعي، ويضيف: "بانياس بالقرب من تل القاضي حيث ينبع نهر الأردن أو مدينة دان القديمة، وبها آثار مهمة، وبالقرب منها حصن الصبيبة وهذا الحصن هو القلعة المشرفة عليها في رأس جبل، وبينهما نحو نصف ساعة".
يصف آثار بانياس بقوله: "خرائب بانياس على ما انتابها من حوادث الأيام، ولا سيما الزلازل، تدل على عظمة من استولوا عليها، ومياهها غزيرة للغاية، لو توفرت العناية بإخراج الصخور والردوم من طريقها لتضاعفت كميتها، ولما كانت تقل عن مياه بردى. وللإفرنج كلام طويل في عمران هذه القرية الصغيرة اليوم والمدينة العظمى أمس، فقد قالوا إن اسمها مطابق للاسم اليوناني الذي كان يطلق على هذه المدينة والكورة بأجمعها، سميت بذلك لمغارة اختصت بعبادة بان، وهي تحت منبع الأردن.
قلعة الصبيبة
أنشأ هيرودس في بانياس معبداً على اسم أغسطس، وأنجز ابنه فيليبس بناء هذه المدينة وسماها قيصرية فيليبس، تمييزاً لها عن قيصرية فلسطين، وقد وسمها هيرودس أغريبا الثاني وسمّاها نيرونياس، وهو اسم أطلق عليها مدة قليلة من الزمن، وكان فيها منذ القرن السادس أسقفية تابعة للكرسي الأنطاكي، واستولى عليها الصليبيون لما فتحوا هذه البلاد.
وحول قلعة الصبيبة يقول: "لم يبق اليوم منها سوى أنقاضها. وأكثر ما فيها إلى الآن من الكتابات العربية من القرن السابع. والإطلال من قلعتها من أجمل مناظر سورية، لأنها تشرف من جهة على قسم من بلاد الجولان، وأرض الحولة، وبلاد الشقيف، وبلاد الأردن".
بحيرة الحولة
بعد ذلك يصف بحيرة الحولة فيقول: "إنها المعروفة في الكتب المقدسة بمياه ميروم، هكذا يسميها الرومان، وأما اليونان فيسمونها سمخونيتس، واسمها عند العرب الحولة أو الملاحة أو بحر بانياس، قال ابن فضل الله: وأما بلاد صفد فحدها من القبلة الغور حيث جسر الصنبرة من وراء طبرية، ومن شرق الملاحة الفاصلة بين بلاد الشقيف وبين حولة بانياس، ويفهم من هذا أن الملاحة هي غير بحيرة الحولة، وهي حوض من الماء على شكل زاوية إلا قليلاً يجري منها الأردن، عمقها من 3 إلى 5 أمتار، وفيها طيور مائية كثيرة كالبط ونحوه، ويكاد لا يدخل إليها من جهة الشمال لكثرتها، وكذلك لكثرة النبات المعروف بالبردي النابت على ضفافها، ولا سيما الضفة الشمالية، ويتألف من السهل في شمالي البحيرة حوض كبير منظم في الجملة؛ عرضه نحو ساعتين ومعظم هذا الوادي العميق يحتوي على الأكثر على بطائح وتسوء الصحة هناك، ولاسيما بعد جفاف قليل من تلك البطائح التي تتخللها عدة قرى".
أما حدود الحولة فيحددها كرد علي بقوله: "قبلة؛ الطريق الفاصل بين نعران إلى جسر بنات يعقوب إلى قطانة والتليل، ومن الغرب الجاعونة والملاحة والخالصة، ويمتد إلى آبل القمح، وشمالاً مزرعة المارية وجسر صريد المتصل بمزرعة حلتا والمحروقة ومغر الشباعنة وبانياس من سفح جبل الشيخ، وشرقاً عين فيت وخريبة السمن والمفتخرة وغرابة والدردارة".
ويشير كرد علي إلى وجود مشروع لتجفيف هذه البحيرة، ويرى أنه مشروع سهل ممكن، لأن من شأن ذلك إحياء "عشرات الألوف من الدونمات قابلة لزراعة البقول والخضر تكفي أهل سورية في فصول السنة الأربعة، بل سورية ومصر وغيرهما، ولا سيما في فصل الشتاء لمكان الحرارة الطبيعية في تلك الأراضي، وكثرة خصبها المريع وشمسها التي لا تكاد تغيب، فعسى أن تصح العزائم على هذا العمل فينفع في صحة السكان وثروتهم، بل صحة البلاد المجاورة وثروة سورية عامة، وكم فيها من خيرات لو حسن الانتفاع بها لكفينا مؤونة الفقر والهجرة".