"رجال في الشمس"... ستة عقود على الكتابة بالأظفار

10 سبتمبر 2024
من الندوة (حسين بيضون/ العربي الجديد)
+ الخط -

أن تختار "مكتبة قطر الوطنية" رواية غسان كنفاني "رجال في الشمس"، ضمن حملة مبادرة "قطر تقرأ" لتكون كتاب العام، فهي تستعيد عملاً اكتسى صفة عبور الزمن الفلسطيني منذ صدوره عام 1963، أي بعد عقد ونصف من النكبة الأُولى، والآن بعد ستّة عقود من صدوره، إذ كان ولا يزال المشرّدون من أرضهم يحدّقون في التاريخ ويكتبون بأظفارهم ما استطاعوا الوصول إليه أو تخيّلوه.

الرواية قصيرة مثل عمر كنفاني القصير الذي اغتاله الموساد الإسرائيلي عام 1972 وهو في سنّ السادسة والثلاثين، تكفي وبقوّة لتكون عملاً تحريضياً وشاعرياً وتراجيدياً ومتوتّراً على الحافة المُخيفة للوجود، دون أن تقع في الخطابية الفنّية حين تحشر ثلاثة مصائر فلسطينية في خزّان ماء على الحدود الصحراوية من العراق نحو الكويت، مصيرها كان واحداً هو الموت وصرخة "لماذا لم تدقُّوا جدران الخزّان!" لم يسمعوها.

قرّرت المبادرة إقامة هذا الحدث على ثلاثة أنشطة متكاملة: المعرض المرسوم بالحبر للفنّان حسان مناصرة، وعرض فيلم وثائقي عن أطفال فلسطينيّين من غزّة تستضيفهم قطر مع ذويهم، وندوة تعاين الرواية من جوانبها الأدبية والتاريخية.

من معرض الفنان حسان مناصرة
من معرض الفنان حسان مناصرة

يحمل المعرض المستمرّ حتى نهاية كانون الأول/ ديسمبر المقبل عنوان الرواية، ويبدو في جانب منه مثل لوحات الرواية التي تُعزّز السرد بالرسم. وهذا ما يقوله مناصرة لـ"العربي الجديد" إنها لوحات سياقية تجعل المرء يُشاهد الرواية في إطارها المسرود. وفي جانب آخر ثمّة لوحات من مستوى تعبيري آخر يختلف عن التوضيح، حيثُ يترك الفنّان لذاته الفنّية أن ترى جدران الخزّان خارج المكان والزمان.

يفتح المعرض كما تفتح صفحات الرواية في تقليد انتهجته العديد من الروايات تُرسَم فيها لوحات تعمّق بالصورة مناطق التوتّر في السرد.

نقرأ لوحاً يُلخّص رواية ثلاثة رجال فلسطينيّين يُكافحون للسفر إلى الكويت بمساعدة أحد المهرّبين، إذ يضطرّون للسفر محبوسين في صهريج مياه عبر الصحراء تحت شمس آب/ أغسطس الجهنّمية.

كلّ لوح تليه لوحة. فهذا "أبو قيس" وتتجلّى فيه الصلة العميقة التي تربط الأفراد بأوطانهم ليمسي رمزاً لمحنة عدد لا يحصى من الفلسطينيّين الذين أُخرجوا من ديارهم.

معرض تشكيلي وفيلم عن أطفال غزّة وندوة تعاين الرواية 

ومروان الذي يمثّل فلسطينيّين انقطعوا عن تعليمهم بعد نكبة 1948، واضطرّ إلى التضحية بتعليمه بسبب العوز والحاجة. وأسعد المُمزّق بين وصول الكويت سعياً للرزق وبين البقاء. وبالطبع "أبو الخيزران" الجَشِع الذي يتولّى تهريب الناس عبر الحدود مقابل مبالغ فوق طاقتهم، وهو ذاته صاحب الصرخة العارمة "لماذا لم تدقّوا جدران الخزّان!".

في الفعالية الثانية التي أقيمت يوم الخميس الماضي بعنوان "رجال في الشمس.. سردية الوطن والشتات" تحدث ثلاثة أكاديميين من "جامعة جورجتاون"، بدءاً من فيرات أروك، أستاذ مادة الثقافة والنظرية وقد استشهد بالكاتب الإيطالي إيتالو كالفينو القائل إن "الأدب ضروري للسياسة حين يُعطي صوتاً لمن لا صوت لهم".

من معرض الفنان حسين مناصرة
من معرض الفنان حسين مناصرة

وعند أروك فإن هذه "النوفيلا" (110 صفحات) اعتمدت على تقنيات الكلام الحر غير المباشر من خلال طرح الصراعات الذاتية، ولكن عبر ضمير المخاطب، ملاحظاً أن الشخصيات غالباً ما تعود إلى الماضي بتداخل مونتاجي مع الحاضر.

لذلك وصف أروك "رجال في الشمس" بأنها رواية تشبه فن المرقّعات التي تضم الشخصيات والقصص المنفصلة في إطار واحد، وكنفاني هنا -كما يضيف- لم يجمع هذه القطع بجانب بعضها، بل فوق بعضها البعض، لتتجلى في الآخر فكرة الوطن في المخيلة، حتى لو لم يتحقق ذلك على الأرض.

أما عمر خليفة أستاذ الأدب والثقافة العربية فقد قسّم إنتاج غسان كنفاني إلى مرحلتين من بداية الخمسينيات إلى نهاية الستينيات الأولى، أي ما قبل تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية وبداية العمل الفدائي المسلح منتصف الستينيات وظهور المقاومة والفدائي الفلسطيني.

وقال خليفة إن من الصعب أن تجد تحولاً كبيراً في مسيرة كاتب خلال سنوات قصيرة، لكن هذا الأمر وقع في مسيرة كنفاني خلال سنوات قليلة ما بين روايتي "رجال في الشمس" عام 1963، و"عائد إلى حيفا" عام 1969. ويرى خليفة أنه منذ منتصف الخمسينيات إلى منتصف الستينيات كانت شخصيات غسان كنفاني غير مسيسة تبحث عن خلاصها الفردي أو انهزامية عالقة في لحظة النكبة، وفي هذه الرواية القاسية المدهشة نجد كنفاني يقدم نقداً عنيفاً وصيحة احتجاج ضدّ الانهزامية والتشرذم وضد محاولة البحث عن فردوس خارج فلسطين. وخلص إلى أن هذا الجو الخانق الذي كان يملأ روايات وقصص كنفاني الأولى سيبدأ يتلاشى تدريجياً بعد ظهور المقاومة وتحول الفلسطيني على مستوى الصورة الأيقونية من لاجئ إلى فدائي، وبالتالي أصبح صانعاً لتاريخه.

وأخيراً ذهب عبد الله العريان، أستاذ التاريخ في جورجتاون إلى أن كنفاني في "رجال في الشمس" يضعنا أمام تحدٍ يتمثل في تأمل محنة الفلسطينيين في المنطقة العربية، مبيناً "كثيرًا ما يطلب مني الطلاب أن أشرح كيف يمكن لنفس الدول العربية التي تتبنى خطاباً بلاغياً مع قضية التحرير الفلسطيني أن تعامل اللاجئين الفلسطينيين بقسوة وتحرمهم من أبسط الحقوق؟". ويواصل: "يمكن أن يساعدنا التاريخ، على فهم تدخل بعض الدول العربية ليس لوقف الإبادة الجماعية المستمرة في فلسطين، ولكن لتزويد إسرائيل بالدعم العسكري والدعم الاقتصادي، وبهذا فكنفاني في روايته يذكرنا بأن مصير الفلسطينيين ليس متعلقاً بمواجهة الصهيونية فحسب، وإنما يرتبط بمصير الأمة العربية بالمعنى الفلسفي لكلمة المصير".

نشاهد في الفيلم القصير عن أطفال فلسطينيين وصلوا إلى قطر خلال حرب الإبادة التي يواصلها الاحتلال على غزة، بجروحهم وحروقهم البدنية وأرواحهم التي عصف بها الزمن الطبيعي لكي يكبر الإنسان على مهله.

وكان أحد المتحدثين يشير إلى السؤال الذائع حول قيمة أن يدق الناس جدران الخزان، ما يحيل إلى مقطع من رواية "أولاد الغيتو" للروائي اللبناني إلياس خوري، وفيه تتحدث الشخصية عن أن المخرج المصري توفيق صالح في فيلم "المخدوعون" عن رواية "رجال في الشمس" لم يختم الرواية بصرخة أبو الخيزران، لكن في الرواية والفيلم تساوى القرع وعدمه. فرجال نقطة الحدود الكويتية ما كان في مقدورهم أن يسمعوا وهم متحصنون داخل غرفهم وأصوات المكيفات تصم الآذان، وبذا يصير السؤال الحقيقي ليس عن خرس الفلسطينيين، بل عن صمَم العالم.

المساهمون