راية فلسطين معلَّقة دائماً في مدرّجاتنا

26 فبراير 2024
مشجّعون جزائريون يرفعون أعلام فلسطين والجزائر في المدرّجات، 2016 (Getty)
+ الخط -

جدران بني مزغنّة

هو ليس جداراً رسَم عليه فنّانٌ ما لوحةً رائعة بألوان بهيّة، ولا هو جدار أبدع فيه خطّاط تحفةً بالخطّ العربي. هو جدار كُتب عليه بخطّ عربي بسيط: "الجزاير واحد ما خلّاهالو باباه ملكية خاصّة".

لا أعرف من كتب هذه الجملة الرائعة. المهمّ أنه ترك بصمته على جدار بجانب عمارة في حي شعبيّ بالقبّة. جملة بكلمات بسيطة ومشحونة بقوّة مُذهلة. ليست مكتوبة بخطّ فنّان في الخطّ العربي. هي جملةٌ كتبتها يدٌ بالحجم الكبير وببند سميك وبخطّ عادي. كتبت اليد المجهولة "الجزاير واحد ما خلّاهالو باباه" باللون الأسود و"ملكية خاصّة" باللون البرتقالي. مكتوبة بأسلوب الفاتح من نوفمبر، ثورتنا الشعبيّة التحريرية.


■■■


فلسفة المدرّجات

يمثّل المُنعرج عقليّة مبنيّة على الأخوّة والتلاحُم فيما بيننا نحن الأنصار. لا أحد سيّد على أحد. نفرح معاً ونحزن معاً. نقف جنباً إلى جنب. نهتف ونغنّي ونصرخ فرَحاً أو غضباً، من أجل الألوان الحمراء والصفراء. من أجل مدينة حسين داي، في ولاية الجزائر. من أجل أحيائنا الشعبيّة التي ننتمي إليها. من أجل "نصر حسين داي"، اسم نادينا المحبوب. لسنا تابعين لأيّ سلطة ولا لأيّ حزب، ونرفض التبعية لأيّ كان. من نحن؟ أنصارٌ شغوفون بكرة القدم. خارج الملعب نحن عمّال في مؤسّسات وشركات عمومية أو خاصّة، ميكانيكيّون، خبّازون، قهوجيّون، سبّاكون، نجّارون، حلّاقون، أساتذة (مثلي أنا)، طلبة.

لسنا تابعين لأيّة سلطة أو حزب، ونرفض التبعيّة لأيٍّ كان

أوشحتُنا كلّها حمراء وصفراء، نلوّح بها في السماء. نلبس قمصاناً، "كاسْكيطات"، سراويل من ماركات عالمية متنوّعة: "مونكلار"، "لايلسكوت"، "التمساح"، "إلّيسي"، "سيرجْيُو طاكيني". ننتعل أحذية رياضية من نوع "تِي- أَنْ"، "أَرْماكْس"، "أَنْدَر آرْمور"، "سْتان سمِيثْ"، كلّها تابعة لشركات رأسمالية عالمية وعملاقة. تماماً مثل ما يفعل أنصار آخرون (أبناء أحياء شعبية هُم أيضاً)، في بقاع أُخرى من العالم، في شمالنا الأفريقي، في أوروبا الغربية، في أوروبا الشرقية أو في تركيا. اللباس هو شيفرة في حدّ ذاته. يفكُّها فقط من يعرف العقلية ومن يعيش أجواء المنعرج.

في كلّ مباراة في ملعبنا وفي المدرّجات، نحقّق اشتراكية السعادة بعد الانتصار أو اشتراكية الحزن بعد الانهزام. تجربة مُذهلة. نغنّي عن حبّنا لـ"نادي النصر" ولحَيِّنا، وعن غلاء المعيشة التي نتعارك معها، وعن معارضتنا لفساد السياسيّين وهراوات رجالهم الزرق وعن تضامننا مع القضية الفلسطينية. راية فلسطين معلّقة دائماً في مدرّجنا.
نحن صوت المنعرج.


■■■


يسمّونه رجلاً "ناجحاً"

السيّد عنده العديد من السائقين يعملّون لصالحه. يسمّيهم "شركاءه". كلّ يوم ينقلون زبائنه من مكان إلى آخر في المدينة الكبيرة. السيّارات التي يقودونها ليست ملكاً للسيّد، بل هي سياراتهم الشخصية. هُم من يدفعون أيضاً ثمن الوقود.

يرجع السائقون إلى ديارهم مُرهقين. مثل نسيم، متزوّج وأبٌ لسارة وعدلان. سارة تلميذة في السنة الثانية ابتدائي وعدلان عمره عام وتسعة أشهر. كانت ياسمين، زوجة نسيم، تعمل في إدارة مصحّة خاصة، لكن تمّ تسريحها قبل قرابة عام ونصف، بعد انتهاء مدّة إجازة الأمومة، بسبب "فترات الغياب الطويلة"، حسب ما قالت مديرتُها السابقة. حينها تحتّم على نسيم أن يبحث عن عمل ثانٍ لكي يستطيع دفع ثمن كراء الدار، فانضمّ إلى سائقي تطبيق "فاست- فاست". لا يملك الزوج داراً خاصة بهما. يكتريان شقّة في بلدية باش جراح، في حي شعبي اسمه "إيجيكو".

يشتغل نسيم من الأحد إلى الخميس، من الثامنة والنصف صباحاً إلى الرابعة والنصف مساءً، في فرع "الشركة العمومية الجزائرية للبلاستيك". عندما يغادر باب الشركة، يستريح ساعة لشرب القهوة وتدخين بعض السجائر ثم يُباشر عمله سائقاً لزبائن "فاست- فاست". يشتغل نسيم هكذا إلى غاية الساعة التاسعة ليلاً.

السيّد هو "الباطرون"، المدير العام للتطبيق، وهو يستغلُّ إرهاق وعرق السائقين ويحوّلهما إلى جبل من الدراهم. السيّد "مبتكر"، هو الذي ابتكر "فاست- فاست". لقد "تعب، كدّ واجتهد"، كما يكرّر دائماً في المقابلات الصحافيّة، في الجرائد الوطنيّة أو في حصص تلفزيونية على القنوات العمومية والخاصّة. لم يعُد السيّد يعمل. الناس تعمل لصالحه. صار يمتلك كمّاً هائلاً من الوقت الفارغ. والأموال تتدفّق الآن مباشرة في حسابه البنكي. أمّا العمّال (السائقون) فيعطيهم دنانير معدودة. يعملون بلا ضمان اجتماعي ولا تغطية صحّية. في حال تكسّرت ذراعهم في حادث مرور أو إذا تعطّلت السيّارة على الطريق السيّار فهذا ليس شُغل السيّد، بل شغل السائق.

يظهر السيّد في صورة لامعة على صفحات التواصل الاجتماعي والمجلّات والصحف الإلكترونية المؤمنة بديانة الدينار والاستعباد. وجهٌ شاب ومُبتسم. يحملُ نظارّات "جيك". يرتدي قميص "بولو" بسيطاً أرجوانيّ اللون. تسمّيه هذه الصفحات "سيّداً ناجحاً وذكيّاً". لقد اختارته "مِسْتَر سوكسَسْ" لهذا العام. صرّح بعض المسؤولين المحلّيين، الذين يعبدون هُم أيضاً رأس المال وسوقه "الحّرة"، أنّ هذا السيد "نموذج يُحتَذى به". أمّا عمّال "فاست- فاست"، فلم يقولوا عنهم شيئاً... طبعاً.


* كاتب ومترجم من الجزائر

نصوص
التحديثات الحية