كانت الحضارة الرومانية، في بداياتها، نموذجاً للأخوّة والحزم والاستقامة، لكنّها سرعان ما بدأت بالتعثر والتمايل، شأنها شأن جميع الإمبراطوريات في العالم؛ بسبب صعوبة الحفاظ على إمبراطوريةٍ بهذا الحجم، وأيضاً بسبب الانحلال الأخلاقي، والهجرات، والأفكار الدينية الجديدة، والغزوات البربريّة، وما بين ذلك من صراعات خفيّة على السُّلطة، أدت جميعُها، في عام 395م، إلى انقسامها إلى نصفَين. عندما سقطت روما على يد الملك الجرماني أودواكر، عام 476م، أرادت الإمبراطورية الرومانية الشرقيّة أن تلتقط عصا تلك الحضارة العظيمة. مع ذلك، وعلى الرغم من حقيقة أنَّ بيزنطة استمرّت حتّى سقوط القسطنطينية على أيدي العثمانيين عام 1453م، إلّا أنّها لم ترقَ إلى مستوى ذلك الإرث الكبير.
حين حظرَ الإمبراطور البيزنطي جستنيان الأوّل مدارسَ الفلسفة عام 529م، بدأت هجرة أبرز المفكّرين اليونانيّين خارج أراضيهم. هكذا بدأ شتاتُ الفكر المعرفي الذي نوّر العالم اليوناني - الروماني. غير أنّه سرعان ما نشرَ بذوره التي ستُثمر لاحقاً في أراضٍ أُخرى مجاورة له. ولمّا كانت المعرفة متحوّلة، وليست ثابتة، تماماً مثل الماء، على حدّ تعبير هرقليطس، كان لا بدّ لها أنّ تتلطّخ بلون الأراضي التي تعبُرها، وتعبق برائحتها. هكذا راحت تلك المعرفة تتكيّف تدريجيّاً مع الشخصيات واللغات والأديان الأُخرى التي مرّت بها. فقد استقرّ الفلاسفة والعلماء واللاهوتيون والصوفيون والمترجمون والفيزيائيون والحرفيون والرهبان وغيرهم في أنطاكية وكبادوكيا وكريت ورودس وسورية وبلاد ما بين النهرين وبلاد فارس. وسرعان ما ظهرت مراكز معرفة جديدة، كما هو الحال مع دمشق وبغداد والبصرة والإسكندرية، حيث انصهرت الثقافات والأديان والأفكار في بوتقة واحدة.
في تلك الأثناء، كانت الدولة الإسلامية قد سيطرت بشكلٍ كاملٍ على حوض البحر المتوسّط، وامتدّت، بعد أن نُشِرَ الدين الإسلامي، من وسط آسيا حتى شمال أفريقيا، وصولاً إلى ما سيُعرف لاحقاً باسم الأندلس. هكذا تهيّأت في تلك البقعة الجغرافية جميع المقوِمات التي ستجعل منها منارة للمعرفة وبوابةً للفكر الكلاسيكي في أوروبا، لا سيّما إذا ما أخذنا بعين الاعتبار الدَّور الكبير الذي قام به الفلاسفة والمفكّرون الأندلسيون مثل ابن خلدون، وابن رشد وابن باجة ــ إلى جانب مشرقيين مثل ابن سينا والفارابي وغيرهما ــ في نقل الفلسفة والفكر الكلاسيكيَّين إلى أوروبا، سواء عبر كتبهم أو ترجماتهم.
لم تقتصر حضارة الأندلس على العمارة بل شملت فروع المعرفة
في إطار تحليل واتّباع المسار الذي سلكته المعرفة منذ سقوط العالم اليوناني - الروماني، في القرن الخامس الميلادي، وصولاً إلى ظهور الجامعات الأوروبية وبداية عصر النهضة، في القرن الخامس عشر الميلادي، يأتي كتابُ الباحث الإسباني رامون سانشيس فيرنانديز "الأندلس: بوّابة الفكر الكلاسيكي في أوروبا"، في إطار الجهود الحثيثة التي يبذلها بعض المستعربين والمؤرّخين والكتّاب الإسبان للتأكيد على الأندلس كجزءٍ من التاريخ والهوية الإسبانيّتَين، إضافةً إلى إبراز أهمّية دور الأندلس الثقافي والعلمي والحضاري، حيث كانت مفتاحاً في الحفاظ على الثقافة الكلاسيكية واستعادتها.
يستفيض فيرنانديز في كتابة الذي صدر عام 2022، عن دار نشر "Almuzara"، المتخصّصة بالدراسات الأندلسية، في الحديث عن الإسلام وكيف انتشر ووصل إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. ثم يقف المؤلّف بشكل خاص عند هذه المرحلة التاريخية، حيث يشرحُ بشكلٍّ مفصّلٍ ودقيق، ليس بعض الأفكار المحدّدة فحسب، وإنّما مسار المعرفة، بمختلف ميادينها، عبر العصور الوسطى، في محاولةٍ منه لتقديمِ رؤيةٍ تاريخيّةٍ تساعدُ على فهمٍ أفضل للأفكار التي طوّرها كبارُ المفكّرين، سواء كانوا فلاسفة، أو لاهوتيين، أو صوفيّين، أو مؤرّخين، أو مترجمين، حيث يعتقد أنّ ربط تعاليمهم وأفكارهم بالمكان والزمان، من خلال الخرائط أو الملاحظات التاريخية، سيسهّل تتبُّعهم ودراستهم وفهمهم.
ويجتهد فيرنانديز بشكلٍ واضح في تسليط الضوء على الحقبة الأندلسية، لا سيّما في عهد الخلافة القرطبية، حيث دُمِجت الأفكار والثقافات المختلفة، واستطاعت الأندلس أن تعيد صياغة مسار التاريخ فكرياً ومعرفيّاً، وكانت ليّنة وقادرة على استيعاب الفلسفة العبرية والفلسفة الهرمسية، وأفكار فيثاغورس، والأفلاطونيات، والعقائد الدينية المختلفة، فلم تقتصر حضارتها على القصور، والحدائق، والمكتبات، والمدارس والسيراميك، والحِرف اليدوية، بل شملت حقول المعرفة كافّة، كالهندسة وعلم الفلك والطب والرياضيات، إضافة إلى التقنيات والآليات والاختراعات التي وصلت إلى مستوى عالٍ، على حدِّ تعبير مؤلِّف الكتاب.
شكّلت مدارس الترجمة فيها حجر أساس النهضة الأوروبية
ولا يُغفل الكاتب الدور الذي لعبته مدارس الترجمة، لا سيّما مدرسة طُليطلة التي تُرجمت فيها أمّهات الكتب الكلاسيكية من العربية إلى اللاتينيّة والعبريّة. وقد شكّلت تلك الكتب، بما فيها من أفكار وإسهاماتٍ معرفية، حجر أساس النهضة الأوروبية؛ إذ سرعان ما ظهرت الجامعات الحديثة وبدأت بالانتشار شيئاً فشيئاً، بالقرب من الأماكن التي بُنِيت فيها تلك المدارس. وهكذا انفصل الفكر العقلاني والعلم عن النِيْر الكنسيّ، ما مهّد لعصر النهضة الإيطالية بين القرنين الرابع عشر والسادس عشر.
يغطّي الكتاب موضوعاتٍ متنوّعة ومتشابكة. ولكن، مع ذلك، لا يمكن تصنيف الكتاب كعملٍ موسوعيٍ، بل هدفُه، كما يُعبّر المؤلّف في مقدّمته، فتح مسارات جديدة في ذهن القارئ. ربما لهذا السبب بالتحديد، سيلاحظ القارئ أنه ليس أمام عملٍ أكاديمي بحت، بل أمام أفكارٍ مطروحة، وربما كانت ناتجة عن قراءات متنوّعة للغاية.
ولكن، مهما يكن من أمر، فإنّ طريق الفكر والمعرفة المرسومَين في الكتاب، منذ سقوط العالم الكلاسيكي حتى تشكيل أوروبا النهضة، ما كان له أن يتشكّل لولا البوّابة الأندلسية، والبيئة الحاضنة التي ازدهرت في الأندلس حضارياً، ثقافياً وفكرياً.