- راشيل كوري، التي عاشت مع عائلات فلسطينية، أصبحت رمزًا للتضامن الدولي مع القضية الفلسطينية، مستخدمة امتيازاتها كأمريكية بيضاء لدعم القضية وتسليط الضوء على الفروقات العنصرية والطبقية.
- قصة راشيل كوري تستمر في إثارة الجدل وتحفيز النقاش حول العنف والإبادة التي يمارسها الاحتلال، مع تسليط الضوء على الحاجة الماسة للعدالة والسلام في المنطقة، وكيف أن القضية لا تزال حية في الوعي العالمي.
في مسابقة للقصة القصيرة أقامتها جهة ثقافية بعد استشهاد الناشطة الأميركية راشيل كوري تحت جرّافة الاحتلال عام 2003، كانت القصة الفائزة تتصادى مع رواية الجيش. خيالاً بخيال والبادئ أوقح.
رواية الجيش في نيسان/ إبريل من ذلك العام بعد أقل من شهر على الجريمة في 16 آذار/ مارس 2003، تحكي عن سائق الجرّافة الحربية التي عليها أن تمحو بيت عائلة في حيّ السلام، شرقي مدينة رفح.
ودفوعات جيش الاحتلال تبني السردية على ما تدعي أنه تحقيق جدي يتوخى الموضوعية، وثمة متسع للحركة وبذل الخيال لتمرير الجريمة. هناك خمس سنوات قتَل الاحتلال فيها 4412 فلسطينياً، بينما في ستة شهور قتَل في غزة أكثر من 31 ألفاً.
الاحتلال وأميركا، يتدولان أمر رفح وكأنه شأن عائلي مافيوي
وهاتان الحصيلتان تحيلان إلى نوعية الإبادة ومجالها الدموي الذي يفسح لدولة الاحتلال الادعاء بأنها تفحص وتمحص وتخرج في نهاية المطاف بأن السائق لم ير الشابة الأميركية، وهي تناشد بالسماعة على بعد عشرين متراً. كانت راشيل "تقف خلف تل من التربة وبالتالي لم تكن في مرمى رؤية سائق الجرّافة"، وعليه "توفيت نتيجة سقوط التربة والركام خلال عملية الجرف".
أما القصة القصيرة فذهبت إلى ما هو أبعد. لقد جعلت من راشيل مُستعلية على مجرّد سائق يؤدي عمله، وكانت لا تراه أكثر من رجل لا يستحم.
هذا ما قد تلجأ إليه مؤسسة الاحتلال ولكن عادة بخيال ضحل وغطرسة يستسهلان فرد الحقائق المفبركة أو المحرّفة قليلاً، ليخرج إمّا مريضاً نفسياً، أو مُداناً كما أدين يسخار شدمي الضابط الذي أصدر تعليمات الذبح في مجزرة كفر قاسم (1956) فوبّخته المحكمة وغرّمته قرشاً واحداً، أو أنه لم ير راشيل بسبب الغبار ووجود الشابة في المكان الخطأ.
مضت 21 سنة منذ ذلك، وكانت راشيل في المكان ذاته أقصى جنوب غزة، دون أن يتغير سوى منسوب الدماء وقد ارتفع طردياً مع منسوب الفجور، حتى إن رفح، هذا المكان الوحيد الذي لم تطله "قيامة" نتنياهو كما يشتهي ويتوعد، يظهر في الأخبار متداولاً بين الاحتلال وأميركا، كأنه شأن عائلي مافيوي؟
نسخة من العار جعلت غلايزر يلقي خطابه وهو يرتجف
الأول الابن البذيء يرى أن الحرب لا يمكن وقفُها بدعوى أن غالبية بشرية حشرت هنا، والثاني الشقيق العقلاني الذي يقول إن الحرب يمكن استمرارها، ولكن حاول ألا تَقتل 30 ألفاً آخرين.
كانت راشيل في المكان ذاته، حيث الإبادة محسوبة، بما يسمح لها في أحد إيميلاتها لأمها بالقول إنها مع رفاقها المتطوعين قد تستطيع عبور المعابر من غزة إلى الضفة الغربية لحضور اجتماع حركة التضامن العالمية مستخدمة "الامتياز الخاص كأشخاص بيض أجانب".
لم تجازف، خوفاً من الاعتقال والإبعاد وبقيت في ضيافة عائلة فلسطينية في حيّ السلام.
في أكثر من محل تشير لفتات راشيل عبر الرسائل إلى البياض العنصري، وإلى إدراكها بأنها تشارك الفلسطينيين أحلامهم وكوابيسهم والعيش في مكانهم غير الآمن، لكن يمكنها التحرّك أوسع، يمكنها التقدم والتراجع بما هو غير متاح للفلسطيني غير الأبيض.
عاشت راشيل مع عائلات غزّية لا نعرف اليوم ما مصيرها
حين تستخدم وصف "الأبيض" فإنها تعي وضعها الطبقي وتتمرد عليه. والطبقي هنا ليس هرمية اجتماعية اقتصادية في مجتمع واحد، بل هي امتيازات وحقوق مواطني دولة الاستعمارين القديم والجديد وهي تتغلغل وتسيطر وتصنع العدو وتُبرّر إبادته، فيكون نموذج هذه الشابة ضمن حركة عالمية ترفض سياسة بلدها، وحكماً ترفض ما تقترفه دولتها الوظيفية "إسرائيل".
الشابة البيضاء عاشت بين عائلات من بين أفرادها ولد تساعده في فروض اللغة الإنكليزية، وثمة تلفزيون وأولاد وبنات يندسون معها تحت بطانية واحدة، وامرأة مسنّة لا تعرف الإنكليزية، ولكن راشيل تفهمها وهي تشير إلى ثوبها الأسود وتنفخ بفمها إشارة إلى أن تدخينك يا راشيل سيجعل رئتيك بلون هذا الثوب.
الحركة المقدرة بالحسابات والتدابير والتوقعات كانت في 2003 مع الانتفاضة الثانية ممكنة، ولم تكن راشيل بحاجة لاستدعاء الهولوكوست، كما فعل المخرج جوناثان غلايزر الأسبوع الماضي وقد فاز بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي عن فيلم "منطقة الاهتمام".
قبل أسبوعين من استشهادها أرسلت لأُمّها سيندي كوري رسالة تقول "ماذا بقي للناس؟ أخبريني إن كان بوسعك أن تفكري في شيء. أنا لا أستطيع". هذه رسالة من إنسانة تشهد عمليات قتل وتجريف واعتقال وتقييد للحركة مع إمكانية أن تتنفس هواء شحيحاً داخل السجن الكبير.
بيد أن غلايزر في خطابه أمام حفل الأوسكار قال إن الاحتلال خطف المحرقة، التي اقتطف منها حكاية فيلمه. لقد جعلته محرقة غزة غير قادر على تحمل عبء التفرد بالإبادة، ومباشرة قال "اتخذنا كل الخيارات التي تواجهنا في الحاضر، كي لا نقول انظروا ماذا فعلوا حينها، بل انظروا ما نفعل الآن".
إنه (وهو وراشيل يهوديان)، بفيلمه الجديد يذهب مباشرة إلى ما لا يمكن نكرانه. إنها إبادة تطابق في جوهرها إبادة الهولوكوست، مع فوارق في المواصفات التي تحدد فصيلة الدم الجنوبي، وهذه المرّة تصوّر المذبحة في بث مباشر بتقنيات رخيصة، لم تكن متوافرة إبان الحرب العالمية الثانية.
في زمن راشيل كان يمكن معاينة ترف إقامة الجنائز. من المؤكد أنها رأت شهداء محمولين على الأكتاف إلا أنها لم تحدّق في الكابوس المخيف وقد أيقظ مئات الملايين حول العالم على ما لا يحتمل من القتل الانتقامي والبكاء المتواصل، في نسخة من العار جعلت غلايزر يلقي خطابه وهو يرتجف.
اليوم لا نعرف مصائر العائلات التي عاشت راشيل بينهم. لقد أصبح جُلّ قطاع غزة محشوراً في رفح، و"المجتمع الدولي" الذي يعني هنا أميركا وميكرونيزيا وكندا وبريطانيا، صار يحرجه فقط دويُّ الاحتجاجات.
والتاريخ علمنا وعلّم على جلودنا ما يفيد بأن جريمة يمكن أن تقع اليوم، دعها تقع مع أعراضها الجانبية من احتجاجات، وإدانات، وشعور بالصدمة والقلق البالغ، وبعد حين سيأتي مخرج أفلام وثائقية يسأل ضابطاً متقاعداً وبجانبه قطة ناعسة، فيقول: "نعم قتلتُ بقذيفة سبعة (مع هزّة رأس) ذلك مؤسف. مشهد المرأة الحبلى وجنينها خارج رحمها كابوس لاحقني طويلاً.. حقاً أشعر بالأسف".