تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، العشرون من نيسان/ أبريل، ذكرى ميلاد النحّات العراقي محمد غني حكمت (1929 – 2011).
في التاسع عشر من نيسان/ أبريل عام 1951، أعلنت "جماعة بغداد للفن الحديث" عن تأسيسها على يد الفنانين شاكر حسن آل سعيد وجواد سليم ومحمد الحسني، وسرعان ما انجذب إليها العديد من الفنانين وطلبة كليات الفنون، ومنهم محمد غني حكمت الذي تحلّ اليوم الثلاثاء ذكرى ميلاده، في مسار موازٍ لحركة التجديد في عمود الشعر العربي، في لحظة فارقة سيكون لها تأثيرها على المشهد الثقافي العربي برمّته.
اندفع النحّات العراقي (1929 – 2011) وراء تلك التظيرات التي استندت إلى نقطتين أساسيتيْن؛ الأولى تتصل بإحياء التراث العراقي بجذوره المتعدّدة؛ رافدينيةٍ قديمة وعربية إسلامية، وثانيهما الانفتاح على روح العصر وتكريس حداثة عراقية وعربية في الفنون.
أُعجب محمد غني حكمت بآراء أستاذه جواد سليم الذي وجّهه خلال دراسته في "معهد الفنون الجميلة" ببغداد إلى الاهتمام بالتصوير السومري في النحت، ومحاكاة الأساطير والرموز القديمة، وهو ما ظلّ مجرّد فكرة لم تٌتنتج ممارسة ناضجة إلا بعد دراسته في "أكاديمية الفنون الجميلة" في روما مدّة سبع سنوات، حيث تخرّج منها عام 1959، كما نال شهادتي دبلوم، واحدة في الميداليات من مدرسة "ألزكا" في العاصمة الإيطالية، وأُخرى في صبّ البرونز من فلورنسا عام 1961.
تعامل بفضل تكوينه الأكاديمي مع البرونز والرّخام، وهما المادتان اللتين لم يتم استخدامهما من قبل نحّاتي العراقي بشكل موسّع آنذاك، كما سعى إلى المزج بين لغة تعبيرية مستمّدة من حضارات العراق القديمة وبين أسلوب تجريدي بحُكم اطّلاعه على حركة النحت في أوروبا، وهو ما عبّرت عنه أعماله الأولى التي نفّذها بعد عودته إلى بغداد مطلع ستينيات القرن الماضي.
كان حكمت أحد الفاعلين الأساسيين في المشهد الثقافي والفني ببلاده حيث ساهم في إنشاء في "جماعة الزاوية" و"تجمّع البعد الواحد" واشترك في معظم معارضها داخل العراق وخارجه، ويبرز هنا انخراطه في التيارات التي جمعت في عضويتها الأكاديميين بشكل رئيس، والذين بحثوا عن أطر مفاهيمية لممارساتهم الفنية، وربما أهمها في هذا السياق كان توظيف الحرف العربي كجزء من السطح التجريدي، ما يمكن ملاحظاته في نماذج عديدة من منحوتات حكمت.
وفي سعيه لإعادة تقديم التراث العراقي، لجأ إلى ربط أعماله بالواقع ومنحها بعداً فكرياً معرفياً كما في محاكاته لشهرزاد و"ألف ليلة وليلة"، من خلال إبرازه لأدقّ التفاصيل في نحت الشخصيات وتقديمها، وكأنها جزء من الحياة اليومية للناس وليست مجرّد استعارة من الماضي. سيكرّر التجربة في منحوتات أخرى مثل "السندباد وبساط الريح"، "المتنبي"، و"كهرمانة" وعشرات النصب التي احتشدت بها المدن العراقية، وتعكس قدرته على إدماج الزخارف والكتابات والأشكال الهندسية الإسلامية بأسلوب عصري.
أما في منحوتة "إنقاذ الثقافة"، فقدّم عملاً مفاهيمياً يركّز على الحركة في المكان والزمن كما توضّحه الأيدي الممتّدة التي تسعى إلى رفع عمود أسطواني يشبه برج بابل، مقابل فكرة الأقدام التي تشير إلى القوة والرسوخ، في معادلة تجمع بين الفكرة/ المفهوم لما تعنيه الثقافة في حياتنا المعاصرة وبين التمسّك بحضارة الأجداد كما تبيّنه الرموز والكتابات بالخطّ المسماري على العمود.
تعرّضت العديد من أعمال حكمت إلى السرقة والتخريب بعد الاحتلال الأميركي للعراق عام 2003، حيث يقدّر تدمير ونهب ما يقارب مئة وخمسين منحوتة من منحوتاته الحجرية والبرونزية والخشبية إلى جانب الميداليات والشارات التي نفّذها من الذهب والفضة والنحاس، وكانت معروضة في متاحف بغداد.