ذكرى ميلاد: جمال حمدان.. الجغرافي بوصفه نبياً منبوذاً

04 فبراير 2021
(جمال حمدان في بورتريه لأنس عوض/ العربي الجديد)
+ الخط -

تستعيد هذه الزاوية شخصية ثقافية عربية أو عالمية بمناسبة ذكرى ميلادها، في محاولة لإضاءة جوانب أخرى من شخصيتها أو من عوالمها الإبداعية. يصادف اليوم، الرابع من شباط/ فبراير، ذكرى ميلاد الباحث المصري جمال حمدان (1928 - 1993).


توضع الجغرفيا، بفروعها الطبيعية والبشرية والمناخية، كقاعدة أساسية تقف عليها حقول معرفية كثيرة، مثل التاريخ والعلوم السياسية والاقتصاد والأنثروبولوجيا، وهو ما نقع عليه، مثلاً، في بناء كتاب "المقدّمة" لابن خلدون. في ثقافتنا العربية المعاصرة، يصعب أن نجد الجغرافيا تلعب هذا الدور، فهي تبدو هامشيّةً، لا دور أساسيّاً لها في منظومة المعرفة.

تعدّ تجربة الباحث المصري جمال حمدان (1928 - 1993)، الذي تمرّ اليوم ذكرى ميلاده، من الاستثناءات العربية القليلة في تأثيث موقعٍ فاعل للجغرافيا في الثقافة العربية. إذ لم تكن أعماله مجرّد أبحاث تخصّصية، بل إمدادات للوعي الحضاري. هذه التجربة نفسُها تعرّفنا إلى كثير من أسباب نكوص البحث الجغرافي عربياً. يكفي أن نسأل: كيف رحل الباحث المصري؟

مباشرة بعد وفاته، كانت هناك إجابةٌ رسمية أولى تفيد بأنّ حمدان لفظ أنفاسه جرّاء اختناق من تسرّب الغاز، لكنّها إجابة لم تقنع أسرته وأصدقاءه وقرّاءه، خصوصاً مع تسريبات لاحقة من شهود عيان وأطباء أشاروا إلى آثار احتراق في جثّته. هذه شكوك تستند إلى المستوى الظاهري البحت، وهي تؤدّي إلى فرضية الاغتيال. أما على المستوى الرمزي، فالجريمة ثابتة.

بعد سنوات من "الأمجاد" الأكاديمية، وعلى مستوى جماهيرية كتبه، من نهاية خمسينيات القرن الماضي إلى منتصف سبعينياته، وجد حمدان نفسه منبوذاً. ولا يخفى هنا أنّ المناخ العام كان قد تغيّر في مصر، وجعل مؤلف كتاب "شخصية مصر" ينزوي في شقته خلال العقد الأخير من حياته، بعد أن كان علَماً من أعلام المعرفة في شبابه.

حاول أن يجعل من علم الجغرافيا أداةً للمقاومة الحضارية

يعود هذا النبذ، ثم فرضية الاغتيال، إلى سبب مشترك متمثّل بمحاولة حمدان تحويل الجغرافيا إلى أداة مقاومة حضارية. مقاومةٌ، أوّلاً، للمشروع الاستعماري بمعناه الواسع من حيث هو محاولة سلب إرادة أمّة، وذلك من الاستعمار الإمبراطوري الذي فرضته بريطانيا وفرنسا على المنطقة خلال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين إلى الاستعمار الاستيطاني الذي مارسته بعد ذلك، وتمارسه، الصهيونية كعدو مباشر تتحرّك خلفه قوى استعمارية أخرى. وثانياً، مقاومةٌ ضد الخيارات الانبطاحية التي جرفت القرار السياسي العربي بعد "حرب أكتوبر".كان حمدان يريد للجغرافيا أن تكون رافداً لاستراتيجيّةٍ تحرّرية، الأمر الذي لا تشاطره فيه قوىً كثيرة لا تحبّ للجغرافيا إلا أن تكون عِلماً وصفيّاً ثانوياً.

من هنا يمكن أن نفهم المرحلة الثانية من كتابات حمدان التي تتضمّن مؤلفات "بترول العرب" (1964)، و"الاستعمار والتحرير في العالم العربي" (1964)، و"استراتيجية الاستعمار والتحرير" (1968)، ويمكن أن نضع ضمنها أيضاً كتاب "شخصية مصر" في طبعته الأولى عام 1967، قبل أن يسهر عليه بالتطوير في بداية الثمانينيات، فيجعل منه موسوعة من أربعة أجزاء. 
سبقت ذلك مرحلةٌ أولى من المؤلفات، اتسمت بمحاولة فهم الجغرافيا على أرض الواقع، ضمنها كتب مثل: "دراسات في العالم العربي"، و"أنماط من البيئات"، و"دراسة في جغرافيا المدن"، و"المدينة العربية"، وكأنه كان يعمل بمقولة "اعرف نفسك"، لينتقل لاحقاً إلى مقولة "اعرف عدوّك"، حين أنجز كتاب "اليهود أنثروبولوجياً" (1967)، وكان قد شرع في إنجاز عمل بعنوان "اليهودية والصهيونية" قيل إن مسودّته اختفت ضمن حادثة رحيله.

كانت هذه المشاريع التي انبرى لها حمدان تجد أفقاً من الترحيب الرسمي والجماهيري الذي كسرتْه، نفسياً، هزيمةُ 1967، ثم تحوّلت الاتجاهات تماماً، وفقد العقل المصري توازنه بعد 1973، لتبدأ المرحلة الثالثة من كتابات حمدان التي اتسمت بالاشتغال على تأسيس وعيٍ جغرافيّ ومحاولة فتح الرؤية الاسترتيجية إلى أبعد حد. وهنا تبرز أعمالٌ مثل "قناة السويس" و"أفريقيا الجديدة".

إذا نظرنا إلى مجمل هذه المدوّنة التي تركها حمدان، سنقف على حقيقةِ أن البحث الجغرافي، بالمدلول الذي كان يأمل فيه، قد توقّف تماماً. علم الجغرافيا العربي - بعد حمدان - أشبه بسلاح اختار أصحابه أن يظلّ مطموراً تحت الأرض. بعضهم لا يدرك أن الحرب قائمةٌ إلى اليوم.

المساهمون