كيف يُمكن التأريخ للذات في الفلسفة الحديثة؟ تنوّعت إجابات الفلاسفة والمفكّرين الغربيين عن هذا السؤال، فمنهم، على سبيل المثال، مَن قدّم الذات ضمن علاقتها بالآخر والسرد، كما فعلت جوديث بتلر، صاحبة "الذات تصفُ نفسَها"، ومنهم أيضاً مَن درسوها من وجهة نظر الفوارق بين تجربة النهار والليل، الوعي واللاوعي، كما فعل ميكائيل فوسيل في مؤلَّفه "الليل: العيش بلا شاهِد".
بدوره، يختار المفكّر والناقد الفنّي السويسري ميكائيل جاكوب الإجابةَ عن هذا السؤال عبر ثيمة مفاجئة هي الدُوار، أو الدوخة، في كتابه "دُروس الدُوار: في ثغرات الذاتية"، الصادر حديثاً بالفرنسية عن منشورات "ميتيس بريس" في جنيف.
دُوار الذات الحديثة يتأتّى، بالنسبة إلى المؤلّف، من موقعها العالي أو المتعالي الذي اختارته لنفسها كي تنظر، من فوق، إلى العالَم؛ كي تنظّم الأشياء التي يتألّف منها وكي تسيطر عليها. موقعٌ اعتقدت الذات ــ أو اعتقد مفكّرو الذات الحديثة، بالأحرى ــ أنهم يصلون إليه عبر المعرفة، التي من شأنها الخروج بالإنسان من "حضيض" الطبيعة وعالَم الحيوان إلى قِمَم الوعي.
ويُكمل المؤلّف استعارته هذه عن الحداثة والذات الحديثة بالقول إن هذا التعالي، والرغبة في الإمساك بالعالَم والأشياء رغم البُعد النسبيّ عنه وعنها، يقودان الذات إلى الدُوار، تماماً كما يحدث مع شخص ينظر باستمرار من قمّة جبل إلى الأرض. هنا، يقول جاكوب، إن الذات تكتشف حدودها وقصورها ــ وهو الموضوع الأساسي الذي يرغب بلفت انتباهنا إليه في كتابه.
مع تقدّمنا في القراءة، سنكتشف أن اختيار المؤلّف لاستعارة الدُوار بعيدٌ كلّ البُعد عن أن يكون خياراً شخصياً أو عبثياً. ذلك أن كتابه يُرينا كيف أن هذه الاستعارة حضرت بوفرة لدى مفكّرين وأدباء تناولوا، في تنظيراته أو نصوصهم السردية، حدود الفرد هذه والصعوبات التي يواجهها في عالَم اعتقد ــ خاطئاً ــ أنه صاحبه الوحيد.
فمن بتراركا، في القرن الرابع عشر، صاحب مقولة "كنتُ كمَن أصابه الدوار"، التي يُوردها في سياق حديثه عن صعوبة صعود جبل فونتو (في جنوب فرنسا اليوم)، إلى ألبريشت فون هالر، في القرن الثامن عشر، وتغنّيه بـ"الدوار الرقيق" ضمن الحديث عن التجربة الجمالية، نصاحب الكاتب في استعاداته لهذه الاستعارة ولِما تعنيه، في رحلة تمرّ بأعمال فالتر بنيامين، وجان جاك روسو، وإيمانويل كانط، وفرانز كافكا، وغوته، وهاينرش هاينه، وغيرهم.
كما يركّز الكاتب على حضور الدوار، والدوخة، والإحساس بالغثيان، في تاريخ الفن التشكيلي الأوروبي، مركّزاً على بعض التجارب التي عُرفت باهتمامها الكبير بالأسئلة الوجودية وبتجربة الذات في عالَم تبحث فيه عن معنى، أو تبحث عن منحه معنىً ما، كما هو الحال مع كاسبار دافيد فريديريش (صاحب اللوحة الشهيرة "المسافر يتأمّل بحراً من الغيوم")، أو ألبريشت دورر، أو إدفار مونش، الذي تُتابع أغلبُ لوحاته حالاتٍ يصل فيها الإنسان إلى حدود طاقاته وفهمه وقدرته على الاحتمال، ولعلّ خير دليل على هذا لوحته المعروفة "الصرخة".