تعرّفتُ إليه في مدريد عام 2016، كان برفقة الشاعر والصديق المُشترك سيزار أنطونيو مولينا Cesar Antonio Molina. لم أكن آنذاك أعرفُ أنني أمام شاعرٍ يُعتبَر، اليومَ، واحداً من أهم شعراء هذه اللحظة الإسبانيّة. سألني بابتسامةٍ ماكرة عمَّن أقرأ من الشعراء الإسبان، فأجبته بصراحة أنني لا أُتابع كلَّ ما يكُتب. قرأت كلارا خانيس ولويس مونتيرو وغيرهما، ولكنني ميّال أكثر إلى شعراء الجيل السابع والعشرين، إلى غونغورا، وكيفيدو. واستطردتُ قائلاً إن الشعر الإسباني اليوم لا يلبّي ما أبحث عنه، أنا المسكون بعوالمَ أجهلُها. هزّ رأسه وأخرجَ من حقيبته كتاب "نهاية العالم في شاشات التلفاز"، وتمنّى في إهدائه أن نصبح صديقين شعراً، وحياةً. تحدّثنا طويلاً عن الشعر تلك العشية الخريفية الباردة في مدريد، وسألني كثيراً عن العالم العربي، وعن دمشق، وعن اللغة العربية وعن الشعراء العرب.
بعد أن قرأتُ ديوانَه الأول، اشتريتُ كتبَه جميعها، وقرأتها. بدا لي دييغو دونسيل Diego Doncel (1964) كما قرأته في شعره، الفارس الوحيد في إسبانيا الذي لا يزال، بنُبلٍ، يقاتل من أجل العودة إلى الشعر الحقيقي، إلى تلك القيم النبيلة والأفكار العظيمة التي احتقرها فكرُ ما بعد الحداثة. بدا لي صاحب مشروعٍ شعريٍّ وفكريٍّ نبيلٍ: إثبات صحّة الرّوايات العظيمة وجوهر الثقافة، شعراً، فكراً ونقداً. وهو بذلك يرفض كلّ رؤيّةٍ من شأنها أن تدعو إلى نهاية التاريخ، نهاية الفلسفة، ونهاية الوجود. الشعر، بالنسبة إليه، قدَرٌ شخصيّ. نجاةٌ. وهو الوحيد القادر على شحن جسد الحياة بالحيوية والطاقة. قصيدته معركة ضدّ كلّ ما هو مبتذل، إنها سؤال مفتوح عن كلّ شيء. محاولة لتسمية ما لا يمكن تسميته.
على الشاعر أن يصارع في قصيدته ضدّ المعاني السهلة
ينتمي دييغو دونسيل إلى وعي شقيّ يدعو إلى التعدُّد، الحوار والمثاقفة. يرفض المركز، ولا سيّما المركز الأوروبي. يرى المكان كلّه، بمساحاته كّلها. بمحيطه الخارجي: فكلّ ما هو عربي يشكّل ركيزة أساسيّة لجزء كبير من الأدب الإسباني، يقول لنا في هذا اللقاء الخاص بـ"العربي الجديد".
■ كتابك الأخير "الهشاشة" تكريم لوالدك الذي رحل أخيراً. إنه كتاب موت يكتب الحياة، كتاب ألم وفقدان، ولكنه يبعث الأمل والسعادة.
- بقي والدي ثمانية أشهر في غيبوبة. خلال ذلك الوقت، كنا ننتظره ساعةً ساعةً ويوماً يوماً أن يستيقظ. جرّبنا معه أنواع العلاجات كلها لكي يستردَّ وعيه، لكي يتحرّك أو يتكلّم. في هذه الأثناء، كان علينا الاعتناء به، وإطعامه، وإعطاؤه الحب، ومرافقته كي لا يشعر بالوحدة. أردت من خلال قصائد "الهشاشة" أن أكتب كيف أن الحبّ أقوى من الألم، وكيف أن المأساة ليست غاية في حدِّ ذاتها، ولكنها شيء يجعلنا أكثر كرامة وأكثر إنسانية. كان من المُمكن أن نُصاب بالجنون من كل ذلك، كان من المُمكن أن ننهار. لقد أمضيتُ ما يقارب الشهر وأنا نائم على الكرسي في غرفة انتظار العناية المشدّدة. لم أستطع أن أترك والدتي بمفردها. لقد اخترنا المعاناة لكي نراهن على الحياة، حتى لو كانت هذه الحياة محفوفةً بالمخاطر، حتى لو لم يكن لها معنى محدّد. قررت مناشدة العدم الذي صار إليه والدي، مناشدة موته وخرابه، لكي نرفع باسمه حيواتنا.
■ أدخلت هاملت إلى العناية المشدّدة، وأعدت إحياء يهوذا، كما أنك تستحضر أوفيليا وتتحدّث معها: هل هو شعور مريرٌ بالرعب، أم وحدة تشعر بها، أم أنك بحاجة إلى أصدقاء في هذا العالم/ العزلة؟
- هاملت، بالنسبة إلي، يعبّر عن الحِداد الذي عشته بعد وفاة والدي. إنه شعور بالرعب من معرفة أن موت والدي كان بسبب شخص، وأن هذا الشخص لا يزال طليقاً دون أي عقاب. يهوذا هو الخائن، الرجل الذي يخون كلّ شيء، بما في ذلك الله، ليخلّص نفسه. أوفيليا هي رمز الحب المستحيل. كلّ هذه الشخصيات التي أستحضرها ليست من الماضي ولا محض خيال. إنهم معنا، أُناس نعيش معهم، وهم الذين دمّروا حياتنا. في جميع الأحوال هم جزء مني، من تجربتي الخاصة بالعالم.
رجال الاقتصاد هم الكهنة الجُدد في مدنٍ أقل إنسانية
■ الإرث العربيّ الأندلسيّ موجود في المشهد الأدبي والثقافي الإسباني. ما علاقتك، كشاعر، مع هذا الإرث، وإلى أيّ درجة تعتقد أنَّه مؤثِّر في الشعر والثقافة الإسبانية عموماً؟
- في الواقع، ليس من السهل أن نفهم لماذا لا يُنظر إلى الإرث العربي الأندلسي كواحدٍ من اللحظات العظيمة في الثقافة العالمية. على مرّ القرون، كلّ ما هو عربي كان قاعدة أساسية استقرّ عليها جزء كبير من الثقافة والأدب الإسبانيين. وعلى الرغم من محاولات التعتيم، لا يزال نابضاً في كلّ شيء. علاقتي وطيدة مع هذا الإرث، ومنذ شبابي سُحرت بروحه الصوفية، بابن رشد وابن زيدون، فضلاً عن روح اللغة العربية الموجودة في الأدب الإسباني. حتى الآن أعود، بين حين وآخر، لقراءة كتاب "رسالة التوابع والزوابع" البديع لابن شهيد الأندلسي.
■ ما علاقتك اليوم بالثقافة العربية والشعر العربي؟
- في الجامعة، درستُ اللغة العربية وآدابها لمدّة ثلاث سنوات. أعتقد أن الأدب الحقيقي والأكثر إغراءً، اليوم، لا يوجد في المراكز الثقافية التقليدية، أي في أوروبا أو أميركا الشمالية، بل في المحيط الخارجي. تضيف الثقافة العربية اليوم بُعداً جديداً إلى الخطابات الثقافية الراسخة. الثقافة العربية التي نقرأُها في الغرب صوت مختلف وفريد وعميق بشكل استثنائي، إذ تبدو لي ثقافة حديثة لا تتخلّى عن جذورها. من ناحية أُخرى، أكره وأمقت هذا التوحيد الدولي للأدب الذي يحدث أمامنا، أفضّل عليه التنوّع، والمثاقفة والحوار الثقافي تماماً كما تعلّمت من صديقي خوان غويتسولو.
■ كيف تصف المشهد الشعري في إسبانيا في الوقت الحالي؟
- نحن مضطرون اليوم إلى كتابة شعر القرن الحادي والعشرين، لا إلى اتباع جماليات القرن الماضي. العالم تغيّر. نعيش اليوم في صلب تحوّل ثقافي، وأظن أن هذا التحوّل لا يُمكن أن يعني، بأي شكل من الأشكال، جمالية أو جماليات سائدة، بل تعدُّداً هائلاً من الكتابات. شخصياً، أهتمُّ اليوم في المشهد الشعري الإسباني بشعراء منفردين، والشعراء الذين يحاولون أن يقترحوا صوتهم الخاص، وليس صوت مدرسة أو مجموعة شعرية. من ناحية أُخرى، وبصفتي ناقداً للشعر في ملحق ABC الثقافي، حاربتُ الطريقة التي دُرِّس فيها الشعر الإسباني في الحقبة الأخيرة. إن تصنيفات مثل "شعر التجربة"، أو "الصمت" أو "الاختلاف"، لا تبدو لي صالحة، كلّ هذا بحاجة إلى مراجعة عاجلة وشاملة.
الإرث العربي الأندلسي لحظة عظيمة في الثقافة العالمية
■ منذ بداياتك الشعرية مع ديوان "العتبة الوحيدة" ثم ديوان "ظل يعبر"، يمكن ملاحظة الجهد الذي تبذله من أجل خلق فكر شعري في مواجهة الفكر الهش المعاصر. هل الشعر مكان للمواجهة؟
- بكلّ تأكيد. إحدى أمارات هذا التحوّل الثقافي الذي نعيشه والذي حدثتك عنه تكمن تحديداً في اختزال كلّ شيء إلى ما هو سطحي، والإنترنت هو الخلّاق الأول لهذه السطحية، ننتقل من رابطٍ إلى آخر مثلما ينتقل راكب الأمواج فوق الموج. وبالمعنى نفسه، إن تجاربنا مع الأشياء سريعة، فكلّ شيء يسير بسرعة خارقة. جان بودريار نفسه قال عن حرب الخليج إنها لم تقع أصلاً، وهي حقيقية على شاشات التلفاز فحسب، وهذا كله نتاج الفكر الضعيف. في شعري، أحاول إظهار التناقضات والأضرار الناجمة عن هذا الفكر، والأزمات والاختلالات العاطفية التي يخلقها. أعتقد أنني أكتب شعراً يتجاوز نوع الشعر، حيث يوجد فيه السرد، والتأمّل الأخلاقي، والكتابة المأثورة، وتزامن الأزمنة والمساحات، والتمثيل الدرامي للصوت الشعري كما لو كان مسرحيةً. ولكن قبل كل شيء، ثمة إرادة ورغبةٌ في معرفة ماهية هذا الكائن الذي يُسمّى الإنسان في هذا المجتمع الرأسمالي، ومعرفة معنى الحب والألم والبحث عن السعادة في عالم يختزل كلّ شيء في الإعلانات التجارية، أي استبدال الواقع بمحاكاة الواقع. أحاول بقسوةٍ شديدة أن أواجه هذا الفكر ما بعد الحداثي في شعري.
■ تقول إن زمننا هذا زمن المال السريع، والاقتصاد، والانهيار، والمحاكاة. ما عساه أن يفعل الشعر في مثل هذا العالم الذي كتب علينا أن نعيش فيه؟
- وضع العقل الحديث الإنسان في مركز الكون. كل شيء كان يدور حوله، حول سعادته وكرامته. اليوم، لم يعد هذا موجوداً. نحن الآن أمام نظرة جديدة للعالم: الاقتصاد مركز الكون، هو الدين الجديد. رجال الاقتصاد هم الكهنة الجدد، الأنبياء الجدد، اليوم نبني مدناً أقل إنسانية، صار الإعلام فيها سلعة رخيصة، وصرنا نعيش وباء العزلة. من هنا، كان على الشعر أن يمنح الإنسان الكرامة التي نفونا منها، ويجب على الشعر أن ينقل تجربة هذا التشرّد. لقد سرقوا منا جوهرنا، ومن واجب الشعر أن يبحث عنه من جديد، تماماً كما فعل في الأزمات الكبرى كلّها في التاريخ. إنها لحظة مثيرة إذا عرفنا كيف نكون في مستواها.
لقد سُرق جوهرنا الإنساني، وواجب الشعر إيجادُه من جديد
■ أنت شخصياً، لماذا تكتب الشعر؟
- أصبح الشعر اليوم قدراً شخصياً وطريقةً للعيش والنجاة. وحده الشعر هو القادر على إضفاء الحيوية والطاقة في الحياة. والشاعر اليوم هو الوحيد القادر على استقبال هذا النبض، وبالتالي رؤية العالم الذي ينبض في داخل الأشياء، وفي داخله. بالنسبة إليّ، ليس من الضروري كتابة الشعر فحسب، بل قراءته أيضاً، رؤيته في العالم كله. مرةً قال الشاعر الإسباني كارليس ريبا إنّ علينا أن نعرف المكان الذي يشغله الشعر في عصرنا، ولا سيّما في وسط الخطابات الفلسفية والعلميّة، في خِضمّ التاريخ. كتابة الشعر اليوم تعني بالنسبة إليَّ العثور على هذا المكان، وإدراك أنَّ الشعر أعمق ما يعبّر عن الجوهر الإنساني، وهو الوحيد القادر على أن يكشف ما لا يمكن للخطابات ولأشكال المعرفة الأُخرى أن تكشف عنه أبداً.
■ في رأيك، على ماذا يجب أن تحتوي القصيدة؟
- أحبّ أن يعبّر الشاعر في زمننا عن المعاني الجوهرية، وليس عن التفاهات. أحبُّ أن يصارع في قصيدته ضد المعاني السهلة عبر القصيدة القوية المحفوفة بالمخاطر. الشعر سؤال عن كلّ شيء، نظرةٌ على الواقع انطلاقاً من الدهشة والقلق والبلبلة. الشعر سؤال العالم وتسمية ما لا يمكن تسميته.
■ تقول في قصيدة لك: "لقد أمضيت حياتي كلها وأنا أخطئ"، هل الشعر طريقة لتصحيح أخطاء الماضي؟
- بكلّ تأكيد. الشعر ذاكرة شخصية وتاريخية، ولهذا السبب نجرّ إنجازات الماضي وأخطاءه. على أي حال، لا تزال تجارب الماضي تتحدّث من خلال الأدب. على سبيل المثال، سيعيش والدا برودسكي دائماً في غرفة ونصف في لينينغراد الشيوعية، وسيغادر أوفيد مرّة أُخرى إلى المنفى الذي سيحكم عليه بالعيش على الجانب الآخر من الإمبراطورية، في Tomis، رومانيا؛ وسنتذكر دائماً ما قال المتنبي: "وقد ضلّ قومٌ بأصنامهم". قد تكون ذاكرة أخطائنا هذه أمثلة تعلن المخاطر التي نعيشها في عالم اليوم، أي التجارب القصوى للضحايا الذين يواصلون التحدّث إلينا عبر الكلمات.
■ "نهاية العالم في شاشات التلفاز" عنوان إحدى مجموعاتك، هل يعبّر هذا الإعلان عن أزمة اجتماعية أم سياسية، أم أنها أزمة فردية؟
- تبدو لي فكرة أن ينقل التلفاز لحظة نهاية العالم مغرية ومهمّة للغاية، سيكون حدثاً فارغاً، آخر خبر إعلامي. ولكنه في الوقت نفسه سيفسّر تلك الهستيريا التي نبثُّ بموجبها كلّ شيء على الشاشة، حتى الموت، موتنا نفسه. ما سيكون معنى ذلك؟ أظنُّ معناه أننا نعيش أزمة أخلاقية لا مثيل لها، وهي أزمة متعلّقة، دون أدنى شك، بالجوانب السياسية والاجتماعية والحميمية أيضاً.
■ أطلقت على مختارتك الشعرية عنوان: "أرض تحت المراقبة". دييغو، من يراقبنا اليوم؟
- أولئك الذين لا يقدّروننا، أولئك الذين يعتقدون أننا نشكّل خطراً عليهم. الأسوأ من هذا كلّه هو عندما نراقب أنفسنا، عندما نصبح نحن أنفسنا حرّاساً على بعضنا.
بطاقة
Diego Doncel شاعر وناقد إسبانيّ، وُلد عام 1964 في مالبارتيدا دي قصرش، غربيّ إسبانيا. إضافة إلى كتب وتسجيلات صوتية في السرد، صدرت له ستّ مجموعات شعرية، من بينها: "العتبة الوحيدة" (1990)، و"ظِلٌّ يعبر" (1998)، و"نهاية العالم في شاشات التلفاز" (2015)، "الهشاشة" (2021). نال العديد من هذه المجموعات جوائز شعرية، كان آخرها "جائزة مؤسسة لويفي"، التي نالها هذا العام عن مجموعته "الهشاشة".