كان لا بدّ من حجْز موعد لزيارة معرض ديفيد هوكني الجديد، "نورماندياي" (أو "النورماندي الخاصّة بي"). مع اقتراب موعد انتهائه، في السابع والعشرين من الشهر الجاري، يجذب معرض الفنّان الإنكليزي المعروف (1937)، الذي انطلق منتصف تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في غاليري "لولون" شمال غرب باريس، أعداداً متزايدة من المهتمّين.
طابورٌ صغير الحجم من المنتظرين أمام مدخل الغاليري، ينتظر بعضُ الواقفين فيه دورَهم بالدخول، فيما يحاول آخرون ــ لم يُتَح لهم أخذ موعد ــ حظّاً ممكناً في حال تخلَّفَ أحدهم عن حصّة الوقت التي حجزها لزيارة المعرض. الطقس الباريسي، في هذا اليوم المثلج من منتصف شباط/ فبراير، يُضاعف الرغبة في رؤية أعمال الفنّان الإنكليزي، التي تصوّر ربيعاً بات أكثر من منتظَر في أيّام شتويّة قاسية كهذه.
بدايةَ عام 2019، انتقل ديفيد هوكني للعيش في قرية بوفرون أون أوج، الواقعة في إقليم النورماندي (شمال غرب فرنسا)، والتي لا يتجاوز عدد سكّانها المئتين. قريةٌ ببيوت خشبيّة وممرّات وإطلالات على مناظر طبيعيّة من حقول تفّاح وأجاص وكرز أو شجر وعشب بسيطَيْن. ليس المكان بعيداً عن بلد هوكني، ولا هو ببعيدٍ عن قرية جيفيرني، التي اختار زميلُه الفرنسي، كلود مونيه (1840 ـ 1926)، الإقامةَ فيها في نهايات القرن التاسع عشر.
مثل مونيه، وبخلاف كثير من زملائهما الذين فضّلوا الاقتراب من ضوء المتوسّط، جاء هوكني إلى النورماندي بحثاً عن ضوئها الأبيض ـ الرماديّ ومقترحاتها الطبيعية من أراضٍ منبسطة وأشجار مثمرة. ومثل مونيه، يجلس هوكني ساعاتٍ ليرسم ما تراه عيناه من محيط بيته.
لكنْ، إذا كان الرسّام الفرنسيّ لم يتردّد في تجهيز مناظر طبيعية لتصويرها، معيداً زراعة حديقة على مزاجه، أو مرتّباً الأرض والماء لتشكيل بِرْكةٍ سيرسم انطلاقاً منها عدداً من أشهر لوحاته، فإنّ هوكني يكتفي بالجلوس وانتظار ما تقدّمه له الطبيعة من تغيّرات، حاملاً بين يديه عدّته المختلفة تماماً عن عدّة مونيه: آيباد مزوّد ببرنامج رسْم صمّمه له خصّيصاً باحثٌ إنكليزي، وكرّاسةُ رسم يابانية.
سماءٌ مرسومة بحركات يدٍ تبدو وكأنّها تُرسل تحيّةً إلى فان غوغ
تبدو لوحات "نورماندياي" (وجميعُها مرسومٌ في السنتين الأخيرتين) وكأنّها تلاحق إيقاع الأرض وهي تقترب من دورتها الربيعية. بين لوحة وأخرى، أيْ، مثلاً، بين "أشجار بضبابٍ أقلّ" (أكريليك على قماش، 91×122 سم، 2019)، التي ما تزال تحمل بصمة الشتاء تقريباً، وبين "شجرة تفّاح" (أكريليك على قماش، 91×122 سم، 2019)، يمكن لزائر المعرض اقتفاء أثر النسغ المتصاعد أكثر وأكثر في جذع وأغصان الشجرة، وفي الأوراق التي كبرت وكثفَ عددُها، وفي ثمار التفّاح الناضجة، وفي أصفرها الليمونيّ المضيء، الذي يكدّس تاريخاً من الشمس الربيعية.
أمّا السماء من فوق أو وراء هذين المنظرين، الملتقَطَيْن في وقتين مختلفين من دورة الأرض، فتبدو واحدةً رغم اختلاف لونها، بين رماديّ الشتاء، وأزرق الربيع المحلّى بالبياض. هنا وهناك، تبدو حركات اليد التي رسمت السماء واحدةً، وكأنّها، بضرباتها المُلتفّة دوائرَ، كما لو كانت دوّامات، تُرسل تحيّةً، بطريقة ما، إلى فان غوغ ودوّامات سمائه المليئة بالنجوم.
ليست فكرةُ تتبّع الربيع، وتسجيل ولادته في الأرض والأشجار والأفق، بجديدةٍ في تجربة هوكني. فقد فعل الأمر نفسه عدّة مرّات، لكنِ انطلاقاً من تصويرٍ لمناظر تقع في مسقط رأسه، مقاطعة غرب يوركشاير، في معارض مثل "وصول الربيع" (لندن ــ 2014، ونيويورك ــ 2015) و"وصول الربيع إلى وولدغايت" (باريس ــ 2015). في تلك الأعمال وفي أعماله النورماندية الجديدة، يقترح الفنّان الإنكليزي توليفةً فريدةً من الأخضر والأصفر والليلكي بشكل أساسيّ، ينضاف إليها، بين لوحةٍ وأخرى، ذلك الأزرق الذي طالما رافق لوحاته (ولا سيّما التي تصوّر مسابح). رؤية الليلكيّ، وحدِه، وهو يؤطّر الممشى في غابةٍ أو أمام بيت، أو يؤطّر أكَمةً في الأفق، وجذوعَ أشجار قريبة، تكفي لنعرف أنّ ما نراه يحمل توقيع ديفيد هوكني. رؤيةُ الفنان البصريّةُ هذه تجعل منه واحداً من أكبر الملوّنين الأحياء في يومنا هذا.