"دروب غير مطروقة في فلسطين" لجيمس فين: مقدّمات استعمارية

29 يوليو 2023
القدس في لوحة مائية للرسّام البريطاني جون فوليلوف، القرن التاسع عشر (Getty)
+ الخط -

تحظى مؤلّفات جيمس فين (1806 - 1872)، القنصل البريطاني في الدولة العثمانية بين أربعينيات وستينيات القرن التاسع عشر، بأهمية "نسبية" في استكشاف تاريخ فلسطين، إذ شهدت تلك الفترة صراع القناصل الأوروبيّين على النفوذ والمُمتلكات في القدس، مُستغلِّين لحظات ضعف العثمانيّين.

تنوّعت انشغالاتُه المعرفية، إضافة إلى كتاباته؛ وهو الذي امتلك اطّلاعاً واسعاً في مجالات الجغرافيا والأديان، وكذلك عِلم النبات والزراعة والسكّان وغيرها، وقد ظّفها جميعاً في دَعْمه لاستيطان اليهود في فلسطين، من زاوية انحيازاته الدينية كبروتستانتيّ إلى الصهيونية.

يبني فين في كتابه "دروب غير مطروقة في فلسطين: مقتطفات من رحلات القنصل البريطاني في القدس، في فلسطين وشرقي الأردن (1846 - 1859)"، الذي صدر عن "المؤسّسة العربية للدراسات والنشر"، على معلومات جمعَها خلال زياراته التي شملت أكثر من مئتين وخمسين قرية فلسطينية احتُلّت وهُجّر أهلها، لاحقاً، عام 1948.

في تقديمه، يُشير جمال أبو غيدا - الذي نقل الكتاب إلى العربية بعد أن ترجم مؤلّفاً آخر لفين عام 2017 بعنوان "أزمنة مُثيرة" - إلى نُقطة بارزة تتعلّق بترجمته تسعة فصول من أصل ستّة عشر فصلاً جمعها فين في كتاب حول هذه الرحلات، نشَره عام 1869، إذ استبعد الفصول السبعة الأُخرى، لأنها تتناول مناطق في جنوب لبنان حالياً، يعتبرها جزءاً من فلسطين وفق مفهوم توراتيٍّ بَحْتٍ، أو تُقدّم تأمّلات دينية حول البحر الميِّت وبيت ساحور لا تُفيد القارئ، من وجهة نظر المترجِم.

يطابق المؤلّف الأمكنةَ التي يزورها بتسميات مفترضة من العهد القديم

يقرن فين بين موعد رحلته عبر نهر الأردن، في التاسع من أيار/ مايو 1855، في الفصل الأول، وبين أحوال الطقس، في إشارة إلى تأخُّره في هذه الرحلة، نظراً لارتفاع درجات الحرارة، بسبب هبوب رياح الخماسين الموسمية، في وقت بدأ الفلّاحون أعمال الحصاد، مُستكمِلاً سرده بتفاصيل تتعلّق بالتراتُبية الاجتماعية في القرى الفلسطينية، حين يقول إنّه كان برفقتهم فلّاحون من قرى القدس، بينما كان بعضُهم الآخَر من "الأعراب الغوارنة الذين لا يستحقّون أن يُلقَّبوا بالبدو".

ويركّز فين على روايات مُرافِقه من قبيلة العدوان عن صراعاتها مع قبيلة بني صخر، وعن هزيمة جيش إبراهيم باشا عند حصاره مدينة الكرك، ويتمنّى هنا لو كان بوسعه تذكُّر المزيد من هذه الأخبار والروايات.

في تنقّله بين الأمكنة مثل أريحا والكفرين وجلعاد وحسبان وغيرها، يُطابق فين بينها وبين التسميات التي يفترضُها العهد القديم لها، في سعي حثيثٍ لمطابقة الجغرافيا والرواية الدينية، بما يُعبّر عن رؤيته التي شرح أبو غيدا دوافعها بإسهاب في تقديمه الذي يحمل عنوان "مُقاربة لفهم العلاقة الملتبِسة بين اليمين المسيحي الصهيوني من جهة والصهيونية من جهة أُخرى"، وتناول فيه رغبة التيارات المُغلقة في الكنيسة الإنجيلية، التي ينتمي لها فين، في التبشير للمسيحية بين غير المسيحيِّين عموماً، وبين اليهود خصوصاً، وهو ما قام به فين نفسه، لأن ذلك سيؤدّي بالضرورة إلى تسريع العودة الحتمية للسيّد المسيح، والتي يقف اليهود عائقاً دونها ما لم يتنصَّروا ويقبلوا بالمسيحية، وبالتالي فإن دعم الكنيسة الأنجليكانية تجاه اليهود في احتلال فلسطين وبناء المستوطنات فيها "لا يعدو عن كونه ساميّة مُقنّعة ومُستترة"، بحسب المترجم.

دروب غير مطروقة

تفلت في الكتاب عباراتٌ تشير إلى العنصرية التي يُضمرها فين، كما في الفقرات التي يتحدّث فيها عن سيره أياماً طويلة في الصحراء والأغوار بين الرُّعاة وحقول الذُّرة بالأردن ليصل إلى بحيرة طبريا، ويقف عند "التضارُب الصارخ" بين ملابس البدو وبين قلنسوات الرهبان الفرنسيسكان الطليان وأرديتهم، والذين التقاهم عند البحيرة، وكذلك بين لهجة الإسماعيليّين (المسلمين)، الذين يصفهم بـ"المتوحِّشين"، وبين اللغة الإيطالية حزينة الطابع.

وفي رحلته من القدس إلى بيسان مروراً بمُدن وقرىً وسط وشمال فلسطين، كثيراً ما ينعت فين سكّان القُرى، من المسلمين خاصّةً، بـ"الأجلاف الغِلاظ"، لكن ذلك لا ينفي اهتمامه بصراعات اجتماعية وعائلية ساهمت في تحوّلات عديدة في التاريخ الفلسطيني، حين يلتفت إلى هجمات البدو على الفلّاحين، وإلى الحروب المحلّية بين عائلتي طوقان وعبد الهادي، كما يفصّل خصائص التربة وطبيعة الزراعة في كلّ منطقة يزورها، ويوثّق الأوبئة والكوارث الطبيعية التي شهدتها خلال تلك الفترة.

ينبّه الباحث الفلسطيني جوني منصور، في تقديم آخر وضعه للكتاب، إلى أنّ فين "جمع هذه المعلومات الدقيقة عن نوعية الأراضي ومحاصيلها وجودتها وكميات الأمطار الهاطلة، من أجل أن تستفيد منها مؤسّسات الحركة الصهيونية والاستيطانية لتحديد أماكن ومواقع شراء الأراضي أو الاستيلاء عليها في العام 1948، وما بعده".

المساهمون