قبل الغيتار، كانت يدا دان غريبيان مشغولتين بالعمارة. ليس بالعمارة كفنّ أو مهنة يدرس المرء سنواتٍ ليستطيع ممارستها كـ"معلّم"، بل في تعمير البيوت كـ"شغّيل" لا أداة له سوى يديه وطاقة بدنه. عملٌ مارسه الفنّان، في سنوات شبابه الأولى، برفقة جدّه، الذي غادر أرمينيا إلى فرنسا خوفاً على حياته، مطلع القرن العشرين.
بين تلك المرحلة واليوم، تحوّل دان غريبيان إلى فنّان معروف في فرنسا، هذا البلد الذي وُلد فيه عام 1948 باسمٍ يدلّ بما يكفي على أصوله الأرمينية، التي لا تغيب عن أيّ من ألبوماته وأعماله. ومنذ ذلك الوقت، أصدر الفنّان العديد من الألبومات، غالباً بالاشتراك مع فرقة أسّسها أو شارك في تأسيسها. آخر هذه الأعمال أسطوانتان صدرت أولاهما، "دا سفيدانيا مدام"، أخيراً، بتوقيع "تريو دان غريبيان"، الذي يضمّ، إلى جانب المغنّي وعازف الغيتار والملحّن، كلّاً من عازف الغيتار بونوا كونفر، وعازف الأكورديون أنطوان جيرار. وثانيهما أسطوانة "غيناتس باشا"، التي أنجزها الفنّان مع فرقة أخرى، من تأسيسه أيضاً، هي "أوراقٌ من أرمينيا"، وتُطلق هذه الأسطوانة في الرابع عشر من أيار/ مايو الجاري.
تضمّ "دا سفيدانيا مدام" أربع عشرة قطعةً تبدو، في مجملها، أشبه بخريطة موسيقية وصوتية وحتى لغوية. ذلك أن كلّ واحد من العناوين يأخذنا إلى بلد أو ثقافة، قد يكون اليونان أو أرمينيا، أو جزءاً من رومانيا، ضمن إطار موسيقي يمتح من موسيقى كلّ واحدٍ من هذه البلدان ويحاكيها.
تحتفي الأسطوانتان بالمزج الموسيقي الذي يميّز موسيقى المترحّلين
في مقطوعة "إينياتياس 406"، التي يُفتتح الألبوم بها، يغني غريبيان باليونانية على إيقاع سريع من غيتارين وأكورديون، في جوّ يذكّر بموسيقى كليزمر وألحان مترحّلي شرق أوروبا من الغجر، وهي، على أيّ حال، الأجواء التي تعطي موسيقى دان غريبيان هويّتها. أما في المقطوعة التالية، "دا سفيدانيا مدام"، التي تُعطي اسمها عنواناً للألبوم، فينتقل المقام إلى روسيا ولغتِها، من دون التخلّي عن المزج الموسيقي الذي يميّز موسيقى المترحّلين.
هذه الأرضية المصنوعة من نقلات سريعة على الغيتار والأكورديون، والتي تبقى أغلب عناوين الألبوم وفيّة لها، تتخلّلها مقطوعتان "تكريميّتان"، يعيد غريبيان فيهما توزيع وغناء اثنين من العناوين الفرنسية المعروفة، بطريقته الخاصّة: "بارسكه" (لأنّ) لـ شارل أزنافور، و"قوافٍ" (Rimes) لـ كلود نوغارو.
أمّا "غيناتس باشا"، فهو ثاني ألبومات "أوراقٌ من أرمينيا" (صدر الأوّل قبل 15 عاماً)، ويضمّ مقطوعاتٍ تجمع هي الأخرى بين موسيقات تقليدية من أرمينيا وجورجيا واليونانية، لكنّها تعطي صورة مختلفة عن تجربة الفنان الفرنسي الأرميني، من دون التخلّي عن ثيماته وعوالمه المفضّلة: أجواء شرقية وشرق أوروبية، وكلماتٌ تستحضر الحبّ وآلام الأرمينيين واستعادات لأعمال فولكلورية. ويدين هذا الاختلاف النسبي، بشكل أساسي، إلى اعتماد الألبوم، وفرقة "أوراق من أرمينيا"، على آلات أكثر اتّساعاً مما يعتمد عليه التريو، حيث تحضر هنا، إلى جانب الأكورديون والغيتار، آلاتٌ مثل الكمنجة والدودوك والكلارينيت.