استمع إلى الملخص
- **الاستبداد واللاحركات**: توثّق المؤلفة انحياز الإدارات الأميركية لإسرائيل وإحباط محاولات الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة لتخفيف الاحتلال. تتحدث عن الأمل في طرائق نضالية جديدة عبر "اللاحركات"، وتعرض لواقع الانقسام الفلسطيني وانفصال أعضاء السلطة عن شعبهم.
- **تأثير القمع والانتفاضات**: يدرس الكتاب تأثير القمع في إبطال التحشيد في المجتمع الفلسطيني، مشيراً إلى أن اتفاقيات أوسلو هدفت إلى إحالة القمع الإسرائيلي إلى السلطة الفلسطينية. يبين الكتاب كيف أدى القمع إلى عجز المناضلين عن التحشيد، مما ظهر في الانتفاضة الثانية التي تميزت بالفوضوية والعنف.
ضمن سلسلة "ترجمان" في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، صدرت النسخة العربية من كتاب "الاستقطاب وتصفية التعبئة: إرث السلطوية في فلسطين" للباحثة الفلسطينية دانا الكرد، بترجمة محمود محمد الحرثاني.
يتناول الكتاب التدخل الدولي في فلسطين وتأثيره في تحشيد الشعب الفلسطيني، وعمل السلطة الفلسطينية، وعلاقة هذه السلطة بمجتمعها، ودور النخب السياسية في فلسطين، ويناقش أيضًا أثر استبداد السلطة الفلسطينية في الاستقطاب داخل المجتمع، والاختلافات بين الانتفاضتين الأولى والثانية وأسبابها، ويعرض لتجربتين من التدخل الدولي من خارج فلسطين.
توثّق المؤلفة انحياز الإدارات المختلفة في الولايات المتحدة الأميركية إلى مصلحة "إسرائيل" ضد الشعب الفلسطيني، وإحباطها محاولات الاتحاد الأوروبي ومنظمة الأمم المتحدة؛ لتخفيف وطأة الاحتلال عن الفلسطينيين وتمكينهم من الاستقلال وتحقيق السيادة؛ منذ اتفاقيات أوسلو عام 1993، والضغط الدولي والأميركي لاستخدام المساعدات والدبلوماسية لفرض الرؤية الأميركية للحل، واشتداد هذا الضغط في فترة الرئيس دونالد ترامب، الذي وإنْ لم يستطع فرض هذه الرؤية على الفلسطينيين فإنه أفضى إلى تشتيت قطاعات المجتمع الفلسطيني. ولم تقتصر المؤلفة الكلام على فلسطين، بل أفردت حيزًا للتدخل الأميركي في الحالتَين الكردية وتسببه في انقسام الأكراد في شمال العراق، والبحرينية وإشعاله صراعًا طائفيًّا لم يكن قائمًا.
يناقش الكتاب أثر استبداد السلطة الفلسطينية في الاستقطاب داخل المجتمع
كما تتحدّث المؤلفة عن الأمل لدى الفلسطينيين الذي بدأ يظهر حين اجترحوا طرائق نضالية جديدة لدفع مظلمتهم عبر "اللاحركات" Non-movements - وهو مصطلح لآصف بيات - تتمثل بالعمل الجماعي من دون اجتماع؛ ما وضع الإسرائيليين في مأزق عدم القدرة على قمع "اللاحركات". ويتعرض الكتاب لواقع الانقسام الفلسطيني العريض وانفصال أعضاء السلطة الفلسطينية عن شعبهم.
وقد قابلت المؤلّفة خلال عملها على مسوّدة الكتاب أشخاصًا في مؤسسات السلطة الفلسطينية و"المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية"، وأساتذة وطلابًا في جامعة بيرزيت، ودكاترة في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات"، واستفادت كثيرًا من تعليقات منظمي "مشروع العلوم السياسية في الشرق الأوسط" على مخطوطة الكتاب.
يتناول الكتاب شخصية "عايد"، المحكوم بثلاثين سنة سجنًا لنشاطه في الانتفاضة الأولى، والعائد إلى النضال بعد الإفراج عنه بموجب صفقة بين أول حكومة فلسطينية والحكومة الإسرائيلية، إلا أنه لا يلبث أن يشعر بالعجز فيقبل بمنصب بيروقراطي في السلطة التي لم تكن تشجع على الصدام مع إسرائيل. شخصية "عايد" نموذجية للدلالة على مجتمع فلسطيني يتسم بتعليمه العالي ومعاناته الضائقةَ المالية قبل قيام السلطة في عام 1994، والمسيَّس والمنظَّم جدًّا على الرغم من الاحتلال، والمنخرط في منظمات تمارس بعض الديمقراطية لمواجهة واقع الاحتلال.
يدرس الكتاب تأثير القمع في إبطال التحشيد في مجتمعات خاضعة لتدخل دولي مباشر مثل المجتمع الفلسطيني
أثبتت الانتفاضة الأولى المحلية التنظيم جدواها فاستمرت أربع سنوات، وكان زمام المبادرة بيدها على الرغم من تنسيقها مع منظمة التحرير الفلسطينية في الخارج، وبعد انخراط المنظمة في محادثات أوسلو للسلام وعودتها كيانًا حاكمًا لشعب مؤمن بالديمقراطية، وكان عليها التماهي مع حالة المجتمع الذي تحكمه، ولكن اتضح لاحقًا انحرافها جذريًّا عن هذا الهدف، فشرعت في إزالة أُسس المجتمع الديمقراطية، وجعلت منظمات المجتمع المدني أقلّ فاعلية وأكثر عزلة، وعملت على استيعاب المؤسسات، ولمّا لم تنجح في ذلك لجأت إلى القمع الذي ولّد عجزًا لدى المناضلين على تحشيد ظهر أثره مع اندلاع الانتفاضة الثانية؛ بسبب عدم قيام الدولة الموعودة المنصوص في اتفاقية أوسلو على سنوات خمس لتحقيقه (أي بحلول عام 1999)، فظهرت أقلّ تنظيمًا وإنجازًا، وتميزت بمزيد من الفوضوية والعنف وطول الأمد (في الفترة 2000-2005)، كما استمر التوتر بعد ذلك مع تحريض الرعاة الدوليين السلطةَ على منع أعضاء حركة المقاومة الإسلامية "حماس" الفائزين بالأغلبية في انتخابات 2006 التشريعية من تولّي السلطة، وهي المعلومات التي وردت في أوراق "ويكيليكس" عن فلسطين، والتي نشرت قناة "الجزيرة" القطرية تقريرًا عنها في كانون الثاني/ يناير 2011، تحت طائلة حجب الأموال عن السلطة إذا لم تفعل. وهكذا، وجد الفلسطينيون أنفسهم في هوة الجمود مع حركات شعبية لم تعد قادرة على التحشيد وسلطة تسلطية قامت بما فشل فيه الاحتلال سنوات طوالًا؛ ما شرخ علاقتها بمجتمعها وعزلها داخليًّا، بحسب الكتاب.
كما يدرس الكتاب تأثير القمع في إبطال التحشيد في مجتمعات خاضعة لتدخل دولي مباشر مثل المجتمع الفلسطيني، وتحديد ضروب الاستبداد السلطوي وآلياته المستخدَمة لهذا الغرض، وكذلك تفسير العلاقات بين الدولة والمجتمع في بيئات "مخترَقة" حتى العمق، والمساهمة في توضيح تأثير التسلط المدعوم دوليًّا في الاستقطاب المجتمعي.
ويشير إلى أن اتفاقيات أوسلو هدفت – ضمن ما هدفت إليه – إلى إحالة القمع الإسرائيلي إلى السلطة الفلسطينية، وتأمين الدعم الدولي للسلطة في هذه المهمة؛ فعندما وضعت حرب 1967 الفلسطينيين تحت احتلال إسرائيلي مباشر، شُجّع الاستيطان المسلح "حتى النخاع" في أراضي الفلسطينيين، وتسبَّب ذلك في تصاعد غضبهم، وبخاصة مع الدعم الأميركي المطلق لسياسات القمع الإسرائيلية ضدهم من أجل شلّ قدرتهم على التنظيم، وقد تمثل ذلك في الاعتقال وهدم المنازل والإبعاد وحتى القتل، إلى أنْ وصل الغضب إلى الانتفاضة الأولى، في وقت كانت فيه قيادة منظمة التحرير في الخارج غير قادرة على مدّهم بأيّ عَون، لتورطها في السياسات والصراعات الإقليمية؛ ما منحهم نوعًا من الاستقلال والمرونة والحيوية أتاحت لهم خوض انتفاضتهم بدرجة عالية من الفاعلية.
ويبيّن أنه بعد عودة قادة منظمة التحرير وأعضائها في الخارج إلى فلسطين في إثر اتفاقيات أوسلو وتسلّمهم المناصب العليا والرواتب المجزية، إضافة إلى تلقيهم السلاح والتدريب والمساعدات المالية من الرعاة الدوليين لضمان المؤازرة الشعبية للسلطة وعملية السلام، بدأت المنظمات المحلية القائمة في التلاشي؛ ما أدى إلى بزوغ التوترات بين العائدين والمحليين، وخصوصًا مع ازدياد قضايا الفلسطينيين الأساسية سوءًا، مثل الظروف المعيشية وحقوق الإنسان، وتوزيع المساعدات الغربية وفق المحسوبيات، وهو أمر أدّى إلى تسعير الصراعات الداخلية من جهة، وتطويع المعارضين من جهة أخرى.
وكان نوع من التوتر يبرز من حين إلى آخر بين رئيس السلطة الفلسطينية ياسر عرفات والولايات المتحدة التي كانت تشتكي دعمه للتنظيمات الإسلامية ضد التوغلات الإسرائيلية أو التسامح معها، وكان التوتر مع عرفات يتحول عدائيًّا أحيانًا ويصل إلى التهديد بقطع المساعدات، وفق الكتاب.
ويلفت إلى أن عام 1999 (نصت اتفاقيات أوسلو على إنشاء دولة فلسطينية في الضفة وغزة مع نهايته) لم يبشّر بأي تقدّم في تنفيذها على الأرض، وأمام هذا الواقع تفاوض عرفات عام 2000 في كامب ديفيد مع نظرائه الإسرائيليين برعاية أميركية لإيجاد حلول للجمود الحاصل على صعيد عملية السلام، لكن المفاوضات باءت بالفشل، فقد كان للإسرائيليين وجهة نظر مختلفة بخصوص الوضع النهائي، فانهارت اتفاقيات أوسلو من دون إعلان، وواجه عرفات معارضة متزايدة في الداخل، وانفضّت فصائل منظمة التحرير عن حركة فتح، وهو وضع سرعان ما أدى إلى الانتفاضة الثانية، في وقت آلت فيه السلطة في إسرائيل إلى اليميني المتطرف شارون، الذي آزر توسيع المستوطنات، واقتحم المسجد الأقصى، وكثّف هجمات الجيش الإسرائيلي على قطاع غزة. لكن الانتفاضة الثانية كانت تفتقر إلى قيادة موحَّدة، ونَحَت الجماعات المشاركة فيها إلى العنف، وانضمت إليها حتى بعض عناصر فتح والشرطة الفلسطينية. أما عرفات، فلم يسعَ لإنهاء الانتفاضة؛ ما عرّضه لانتقاد الرعاة الأجانب والولايات المتحدة، وغضّهم الطرف عن هجوم الجيش الإسرائيلي على رام الله ومحاصرة مقرّه.
وشرعت الولايات المتحدة في البحث عن آخرين يحلّون محلّه، وأبقته قيد الحصار حتى رحيله عام 2004، ليخلفه محمود عباس، الذي عيّن الاقتصادي سلام فياض رئيسًا للوزراء، وفي ظلهما خضعت مؤسسات السلطة الفلسطينية لتحوُّل هيكلي في الفترة 2005-2009؛ إذ ركّزا على "تطهير" مؤسسات السلطة من الأصوات الانتقادية و"نزع الطابع السياسي" عن الجمهور الفلسطيني، وتفكيك الجماعات المسلحة من قطاع الأمن، وتحوّلت هذه السلطة، مع مرور الزمن، إلى سلطة قمعية دكتاتورية تستند إلى شبكات أعمال، ونخبة تكنوقراطية، وسيطرة مركزية على الأجهزة الأمنية، ودرجة عالية من التنسيق مع الحكومات الإسرائيلية اليمينية المتصلبة، وبدأ الرعاة الدوليون والولايات المتحدة في مطالبة عباس - كما أكدت تسريبات ويكيليكس – في عزل حماس بعد فوزها التشريعي، وارتفاع شعبيتها، في مقابل الخيبة من سياسات السلطة وإصرارها على الحق في المقاومة ورفضها حل الدولتين، فانقسمت السياسة الفلسطينية، منذ ذلك الوقت، بين معسكرين: معسكر متحالف مع الولايات المتحدة، ومعسكر معارض لها.