احتفاءً بالشاعرة البورتوريكيّة خوليا دي بورغوس (Julia de Burgos)، صمّمت الرسّامة المكسيكيّة ياسمين إرنانديز جدارية في حي هارلم بمانهاتن في نيويورك، تحت عنوان "المحاربات"، تظهر فيها دي بورغوس مُمسكةً بيد الرسامة المكسيكية فريدا كالو؛ في إشارة من الرسّامة إلى أوجه التشابه التي تجمع هاتين المبدعتين كنسويّتين استخدمتا الفن للتعبير عن أنفسهنّ، وما عانتاه من الظُّلم الشخصيّ والعام، في حقبةٍ كانت فيها غالبية الفنانين من الرجال، وكان حديث المرأة عن ذاتها وما يخصّها أمرًا نادرًا.
ليس هذا فحسب، فكلٌّ من دي بورغوس وكالو قد دعمت ثورات بلديهما التحرريّة علنًا، متحمّلتين التبعات الكاملة لذلك. افتتحت إرنانديز (1994) عملها يوم السادس من تموز/ يوليو 2011، وهو اليوم الذي وُلدت فيه الفنانة المكسيكية كالو (1907 - 1954)، وتاريخ وفاة خوليا دي بورغوس (1914 - 1953)، التي اعتبرها عديدٌ من النقّاد أعظم شاعرة بورتوريكيّة خلال القرن الماضي.
وُلِدَت خوليا كونستانزا بورغوس غارسيا، المعلّمة والنسويّة والشاعرة، في 17 شباط/ فبراير 1914 بحي سانتا كروز في مدينة كارولينا بورتوريكو لعائلة فقيرة؛ والدُها المزارِع فرانسيسكو بورغوس هانز، ووالدتها بولا غارسيا دي بورغوس. وهي الكبرى من بين ثلاثة عشر طفلاً، كان الموت والشدائد ثوابت في حياتها، إذ شهدت موت ستةٍ من إخوتها خلال طفولتها.
رمزٌ أدبي ونسوي وسياسي في عموم أميركا اللاتينية
حصلت بورغوس على منحةٍ دراسيّةٍ عام 1928 مكّنتها من الالتحاق بـ"جامعة بورتوريكو الخاصة"، حيث نمَت مهاراتها الأدبيّة والأيديولوجيّة وحازت شهادة مُدرّسة بين عامي 1931 و1933. ثم انخرطت في الحياة السياسية لتنضمّ إلى حزب "بنات الحرية"، وهو الفرع النسائيّ لـ"الحزب الوطني البورتوريكي"، وفي عام 1936 ألقت خطابها الأوّل "المرأة في ظِلّ آلام وطنها" دَاعيةً إلى إطلاق سراح رئيس "الحزب الوطني البورتوريكي"، السياسي والمعارض البارز بيدرو ألبيزو كامبوس الذي أُدين بتهمة محاولة الإطاحة بحكومة الولايات المتحدة الأميركية في بورتوريكو عام 1932.
غادرت خوليا موطنها إلى الولايات المتحدة الأميركية عام 1940 بعد فشل زواجها الأول، وكانت في السابعة والثلاثين من العُمر، وحاولت إيجاد التوازن في حياتِها من جديد وبناء سيرة أدبيّة وصوتٍ شعري خاص في المهجر، وهذا ما أثبتته لاحقًا، إذ مثّلت خوليا دي بورغوس رمزًا أدبيًا شهيرًا للأميركيّين الجنوبيين عمومًا، حيث ساعدت موضوعاتها المتعلّقة بالقوميّة والنسويّة والعدالة في ولادة الحركة النيوـ يوركينية (Nuyorriqueño) في الستينيات، التي ضمّت شعراء وكتّابًا وفنانين مهاجرين من أصول بورتوريكية ولاتينيّة وصلوا إلى الولايات المتّحدة في أواخر الستينيات وأوائل السبعينيات، واستقرّوا في نيويورك ومحيطها. مع العِلم أنّ التاريخ الثقافي البورتوريكي في القسم الشرقي الأدنى من الولايات المتحدة، والمعروف باسم لويسايدا، ممتدٌّ إلى بدايات القرن الماضي مع بداية الهجرة من الجزيرة تحديدًا عام 1910، عقب انتقال حكم الجزيرة من التاج الإسباني، الذي استمرّ منذ بدايات القرن الرابع عشر وحتى أواخر القرن التاسع عشر، إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث فرضت الحكومة الأميركية جنسيتها على البورتوريكيين واتّبعت سياسة اقتصادية كانت نتيجتها هجرة شريحةٍ واسعة من المزارعين من الجزيرة، عقب فرض إنتاج قصب السكر كمحصول وحيد، ليستقرّوا في القسم الشرقي الأدنى، وسان خوان، ونيويورك ويخلقوا هوية ثقافية جديدة في المهجر الأميركي.
ما تثبته سيرتها أنّ أحداث حياتها الشخصيّة، قد أثّرت بشكلٍ رئيسيٍّ على مسيرتها الأدبيّة، وكانت سببًا غير مباشر في وفاتها. فبعد تجربة الانفصال الأولى عام 1939، تعثّرت في تجربتها العاطفيّة التي جمعتها بالزعيم السياسي الدومينيكي خوان غرولون، حفيد رئيس جمهورية الدومينيكان الأسبق؛ وذلك لمعارضة عائلته فكرة الزواج لعدّة اعتبارات كان من الصعب تجاوزها في ثلاثينيات القرن الماضي المحافظة، من بينها: أصول خوليا الأفريقية، وشخصيتها الحرّة المتقلّبة ونزعتها النسوية، وكذلك شائعات طاولتها حول إدمانها للكحول، لتتحوّل قصة الحب إلى هجر وتشتُّت؛ ثم جاء انفصالها الثاني عام 1954عن الموسيقي أرماندو مارين بعد عام واحد من الزواج، لتدخُل في حالة من اليأس قادتها إلى الاكتئاب والإيغال في إدمانها للكحول.
لكن هناك من يحمل وجهةَ نظر مختلفة تماماً عن حياة الأديبة القصيرة، إذ يؤكّد البروفيسور والباحث والمترجم الكوبي أوسكار مونتيرو في كتابه "في أثر دي بورغوس" المكانةَ الأدبية التي شغلتها دي بورغوس، وعلى أنها تشكّل جزءًا من اللاوعي الجماعي للبورتوريكيين في الجزيرة وفي نيويورك. وينطلق في بحثه لاستكشاف تعقيدات خوليا الشاعرة والمفكّرة متعدّدة الأوجه، مُحاولًا دحض الصورة النمطيّة التي قولبتها فيها العديد من المقالات، والأعمال الأدبية المرئيّة والمكتوبة، بصفتها المرأة المبدعة المنقادة وراء أهوائها وحصرتها في مأساة الضحية، ضحية تميّزها في زمن خاطئ. وكذلك يشير إلى ما جاء في مقدّمة الكاتبة ماريا سولا لمختارات جمعتها من أعمال دي بورغوس ونشرتها عام 1986 بعنوان "أنا نفسي كنت الطريق"، والتي تبيّن فيها أنه بعد انتهاء علاقتها بالزعيم السياسي الدومينيكاني غرولون في عام 1942، حاولت بورغوس إعادة تنظيم حياتها فتقول: "لم تغرق في اليأس، بل على العكس، نهضت مرارًا وتكرارًا، على الرغم من اندفاعها الفاشل".
وهذا ما يعكسه قيام خوليا بتغيير اسم عائلتها في خطوة خارجة عن المألوف في زمنها، إذ لم تعُد إلى استخدام اسم عائلتها بعد الانفصال، بل استبدلته بلقب "دي بورغوس" كما ذكرت بيريز روساريو في كتابها "خوليا دي بورغوس: أيقونة الإبداع"، ومن المعروف أن "دي" ومعناها يخصّ، هي صفة انتماء وتبعية للزوج تُمنح تلقائيًا وقانونيًّا للمرأة في عموم أميركا الجنوبيّة عند الزواج، وتشير إلى المُلْكِية، وبهذا الفعل أرادت خوليا أن تستحوذ على نفسها رمزيًّا، كتعبير عن رفض التبعية البطريركية بإظهار رغبة للانتماء إلى نفسها أولًا وأخيرًا.
كانت السنوات الأخيرة من حياتها صعبة للغاية، إذ عانت من الاكتئاب وفقًا لما أكّدته ابنة أختها ماريا كونسويلو سايز بورغوس، وأمضت فترات طويلة داخل وخارج المستشفى بسبب تشخيصها بتليُّف الكبد، لكنها "لم تتوقّف عن كونها نفسها"، واستمرّت في المشاركة في الأحداث الثقافية والسياسية. أمّا في الساعات الأخيرة من حياتها فقد أحاط بها الغموض حيث وجدها بعض رجال الشرطة في الشارع فاقدةً للوعي، عند الساعات الأولى من يوم 6 تموز/ يوليو 1953، ليتمّ إدخالها إلى "مستشفى هارلم" التابع لـ"جامعة كولومبيا" في مانهاتن بنيويورك، حيث رحلت نتيجة التهاب رئوي حادّ. استمرّت أسرتها بالبحث عنها ليكتشفوا بعد أسابيع أنّها قد دُفنت في مقبرة جماعية في جزيرة هارت، فاستُخرج رفاتها لاحقًا ونُقِل إلى بورتوريكو. هكذا انتهت حياة مَن وصفت نفسها في إحدى قصائدها بأنها مجرد "محاولةٍ للحياة".
ساهمت في توعية البورتوريكيين ضدّ الهيمنة الأميركية
دافعت دي بورغوس عن القوميّة والهوية البورتوريكية وأضاءت في أعمالها على قضايا مثل الماضي الاستعماري للجزيرة، وإرث العبودية، والإمبريالية الأميركية. ويظهر هذا جليًّا في أولى قصائدها "نهر لويسا العظيم" إذ تعالج فيها، إلى جانب ذكريات طفولتها الأولى وارتباطها العميق بجذورها، الألم والعنف اللذين عانى منهما سكان الجزيرة الأصليون، والعبيد الأفارقة الذين عاشوا على مقربة من نهر بورتوريكو.
وقد ألهمت نساءَ زمنها من خلال نتاجها الأدبيّ، ومشاركتها الفعّالة في الاحتجاجات، وساهمت في التغيير الأيديولوجي للوعي الأدبي النسوي في حقبة الثلاثينيات والأربعينيات ما بعد الحرب في المجتمع البورتوريكي، إذ استطاعت ان تجد صوتها الفريد متأثّرةً بشعراء عِظام أمثال لويس توريس، وبابلو نيرودا. وقد تركت ثلاث مجموعات شعرية، هي: "قصيدة في عشرين أخدودًا"، و"أغنية الحقيقة البسيطة"، و"أنت والبحر"، نُشرت مجموعتان منها فقط خلال حياتها.
في 19 شباط/ فبراير 1987، كرّمها القسم الإسباني في حرم "جامعة بورتوريكو" بمدينة هوماكاو بمَنْحها درجة الدكتوراه الفخرية في الآداب والعلوم الإنسانية. وأُطلق اسمُها على أحد المنازل الذي يحمي الناجيات من العنف المنزلي، وعلى "متحف العلوم والفنون" في العاصمة سان خوان. وعام 2010، احتفلت دائرة بريد الولايات المتحدة بإرثها الثقافي بتخصيص طابع يحمل صورتها في شهر التراث الإسباني؛ كما أُنشئ في مانهاتن بنيويورك "مركز جوليا دي بورغوس الثقافي"، في شارع 106 وشارع ليكسينغتون.
هنا ترجمةٌ لاثنتين من قصائدها.
أغنية مريرة
لا شيء يُقلقني، ولكنّي حزينة
شيءٌ من الظلّ، بطيءٌ، يَصفعني
رغم أني خلفَ هذا الاحتضار
أوشكتُ أن أُلامس النجوم
لعلّه عناقُ اللّاجدوى
الحزنُ اللّامتناهي لكينونة الشّاعر
الغناءُ المتواصل، دون انقطاعٍ
لمأساةِ الوجود التي لا مثيل لها
أن نوجد، رافضين الوجود... هذا هو الفصام
المعركةُ التي تستنفدُ كلّ صبر
أن نكتشف، بينما الروح تُحتضَر
أن قوةً ما زالت هناك في الجسدِ البائس
أوه! اغفر لي يا حُبّي إنْ لم أذكرِ اسمك
أنا جناحٌ جافٌّ خارج أُغنيتك
أنا والموتُ ننامُ سويًّا
وحده غنائي لك، يوقظني.
■ ■ ■
حُبّ
شعلةُ الرّب الوحيدة المتبقيّة لي
في الدرب اليقين لـِ اللايقين
هنا
يائسةً،
أتأمّل الحياة من حفرة الوقت
متقطّعًا، يمرّ
مسارُ الضوء الذي تراءى في نعاسي
أيا زرقة للصباح التي فارقت الحياة
وظلّت تطفو في الفضاء
أيا نسيج المداعبات التي تُشرق مبعثرة،
حالما يستيقظ الجسد
أيّ رغبة بالابتعاد عن خطواتي التائهة
تلك التي تتضاعف في الصدى
هنا، في هذا الانجذاب المستمرّ إلى العدم
ما أكثر ما هاجم الصّمت القاحل روحي!
أملي رحلةٌ عائمةٌ داخل نفسها
ظلٌّ غامضٌ بدون مرساة وبدون عودة
* كاتبة ومترجِمة سورية مُقيمة في نيويورك