بالتزامن مع انطلاق بطولة "كأس الخليج العربي"، بنسختها الخامسة والعشرين، في محافظة البصرة العراقية، تستعدّ المؤسسات الثقافية لاستقبال الزوّار العراقييّن والعرب الذين سيحضرون البطولة، إذ تُشكِّل هذه الفعالية المُهمة فُرصة للتعريف بتاريخ المدينة وتراثِها وشخصيّاتها الأدبية وفنانيها. خاصةً أنَّ أصداء بطولة كأس العالم، التي انتهت مؤخَّرًا في قطر، لم تزل تتردَّد في الأجواء العربية بشكلٍ عام، وهو ما ولَّد حافزًا كبيرًا في أن تحذو البصرة الحذو ذاته في التنظيم المثالي.
واعتمد الترويج الإعلامي لهذه البطولة بنسبةٍ كبيرةٍ على واقع البصرة الثقافي ومعالمها التراثيّة التي تشتهر بها، إلى جانب حضور الفلكلور الشعبي والعادات المجتمعيّة، إلى جانب ما تتميَّز به المدينة من إطلالة بحريّة.
تنتظم في متاحف وشوارع المدينة أنشطة ثقافية مختلفة
ينطلق عرض الافتتاح يوم الجمعة المُقبل، (6 يناير/ كانون الأول)، على أرض "استاد البصرة الدولي"، الذي يتَّسع لعشرين ألف متفرّج، وتعدّ هذه المرة هي الثانية التي يستضيف فيها العراق البطولة، بعد المرّة الأولى التي استضافتها بغداد في عام 1979.
شارع الفراهيدي
يُعدُّ شارع الفراهيدي المَعْلم الثقافيّ الأكثر زيارةً أيام الجُمع في مدينة البصرة، وهو نسخة مصغَّرة تشبه شارع المتنبي في بغداد، إذ تُباع فيه الكُتب وتُقام الأمسيات الشعرية والندوات الفكرية والفعاليات الفنية الأُخرى، وهو عبارة عن شارعٍ مفتوح يضمُّ ما يقارب 14 كُشكاً خشبياً على هيئة الأكواخ، تَعرض الإصدارات الثقافيّة المختلفة، على امتداد ما يقارب 500 متر. وكان الشارع الذي يعدّه مثقَّفو البصرة متنفَّسهم، فيما سبق، عبارة عن طاولات و"بسطيّات" لباعة الكتب، وظلّ مُهمَلًا وبعيدًا عن الاهتمام الحكومي منذ افتتاحه عام 2015. لكنَّه خضع، منذ منتصف العام الحالي، لحملة تطوير شملت تزويد أصحاب المكتبات بالأكشاك الحديثة وتطوير الشارع بما يُناسب اسم المكان وقيمته. وبهذا، مثَّل الشارع حضوره الأبرز في الترويج الإعلامي كواجهة ثقافيّة، مع دعوة أصحاب المكتبات إلى زيارته، إذ سيكون مفتوحًا أمام الزوّار عصر كلّ يوم ويستمرّ لغاية منتصف الليل.
متحف البصرة الحضاري
في عام 2016، أُعلنَ عن تأسيس "متحف البصرة الحضاري" في منطقة القصور الرئاسيّة، ليكون بذلك ثاني متحف يُفتتح في البصرة بعد "متحف التاريخ الطبيعي"، الذي يعود افتتاحه إلى العام 1972، حيث تعرّض للهدم والتخريب إبّان الغزو الأميركي للعراق عام 2003. ويُعدّ "المتحف الحضاري"، الذي يضمّ قرابة 2500 قطعة أثريّة أصليّة، من أبرز المعالم الحضارية التي تشهد إقبالًا كبيرًا من قبل السيّاح، نظرًا لما يتميز به تصميمُه كتحفةٍ معماريّة تتناسب وما يُعرض داخلها من مقتنياتٍ أثريّة مهمة. إذ يتألّف من خمس قاعاتٍ داخليّة، وهي: "الآشورية"، و"السومرية"، و"البابليّة"، التي تعرض فيها المجموعات الآثاريّة والمقتنيات بحسب انتمائها لكلِّ حضارة، وتضمّ كلّ قاعة عددًا من الجِرار والتماثيل والقِطع المعدنيّة والأحجار الكريمة والعملات النقديّة وغيرها. إلى جانب "قاعة البصرة"، التي تُعرض فيها مجموعات تعود لعصور تاريخية مختلفة، و"قاعة التوجيه" التي تستخدم معرضاً للصور التي توثّق تاريخ وتراث وفلكلور البصرة. وشغل المتحف اهتمام المروّجين للبطولة كونه واجهة تاريخيّة مميَّزة في المدينة، إضافة إلى دعوتهم للزوّار والسيّاح إلى ضرورة زيارته والاطلاع على ما يضمّه من مقتنيات مهمة، فيما أُعلن عن أنَّ المتحف سيكون مفتوحًا وبشكلٍ يوميٍّ خلال البطولة.
شناشيل البصرة وبيوت المدينة القديمة
تشتهر البصرة بالشناشيل التي تعود، حسب المختصّين، إلى القرن السابع عشر الميلادي، وهي عبارة عن شرفات خشبيّة مُزخرفة، وتعتمد على إبراز واجهة الطابق الثاني من البيت بأكملهِ أو غُرفةٍ من غُرَفهِ بشكلٍ ناتئٍ إلى الأمام، ويكون هذا البروز بالخشبِ عادةً وبزخارفَ هندسيةٍ دقيقة. وتصل أعمار ما بقي منها لليوم إلى حوالي 200 سنة، أمّا البيوت التراثيّة فهي مشيّدة من الخشب والطابوق والجندل والحصيرة، وتعود أغلبُها للفترة العثمانيّة وما قبلها، وقد انخفضت أعداد هذه البيوت بشكلٍ كبيرٍ بسبب بيعها للمستثمرين وتحويلها إلى مخازن أو محال تجاريّة، أو بسبب العوامل الجوية وإهمالها ما جعلها آيلة للسقوط.
رُمِّمت معالم عمرانية في البصرة بقصد جذب الزوّار
وقد انطلقت في الأشهر الماضية حملة لإدامة وإعمار 42 بيتًا تراثيًا إضافةً إلى شناشيلها في المدينة القديمة من قبل "يونسكو"، وتضمُّ المدينةُ القديمة إلى جانب البيوت التراثيّة ثلاثة مراكز ثقافيّة مهمّة، وهي: "اتحاد الأدباء"، و"قصر الثقافة والفنون"، و"دار الفنون التشكيليّة"، ويسعى المشروع، الذي ما زال في طور العمل، إلى إكمال الجزء الأكبر منه قُبيل انطلاق البطولة، فيما دعا أهالي البصرة ومثقّفوها إلى الاطّلاع على تراث البصرة عبر زيارة المدينة القديمة التي تُمثّل صورة كاملة عن أهم ما تشتهر به البصرة من طُرز معماريّة نادرة.
وتضمّ المدينة القديمة في أحد بيوتها "متحف الحسون التراثي"، الذي يُعنى بالتحفيات والأنتيكات القديمة والنادرة، إذ يشتمل على عددٍ كبير من هذه المقتنيات إلى جانب الآلات الموسيقيّة، والمحنَّطات، والعُملات والطوابع البريديّة، والأسلحة القديمة، وما يميّز المتحف أنَّه ذو طابعٍ تراثيٍّ محلّي، ويعجّ بالمقتنيات التي يجدها الزائر في كلِّ ركنٍ من أركانه. وأعلن المتحف عن جاهزيَّته لاستقبال الزوّار العراقيين والعرب الحاضرين في البطولة وبشكلٍ مجاني، من أجل الاطّلاع على أهم مقتنيات المتحف التي تمثّل هوية المدينة ونوادرها ومنتوجاتها التراثيّة القديمة بشكلٍ مباشر.
جيكور وبيت السيّاب
رغم أنَّ بيت الشاعر العراقي بدر شاكر السيّاب (1926 - 1964)، الذي يقع في قرية جيكور، لم يجرى تجديده منذ أكثر من 12 عاماً، إلّا أنَّه لا يزال يستقبل الزوّار وتُقام فيه الفعاليات الثقافيّة، إذ لم يلق البيت اهتمامًا من قبل المؤسسات الحكوميّة، وبقي مُهمَلًا ولم يحصل على العناية اللازمة به، حتى بعد إعلان وزارة السياحة والآثار، في عام 2015، عن تحويله إلى متحفٍ ومركزٍ ثقافيِّ، كونه يمثل تركة شاعرٍ له أثره الكبير في الشعر العربي الحديث.
جانب من شارع الفراهيدي في مدينة البصرة
وتبلغ مساحة البيت المبني من الطين والآجر ما يقارب 838 مترًا، ويتكوّن من طابقين وثماني غُرفٍ متجاورةٍ وفِناء كبير. حيث قضى فيه السياب جزءًا من حياته واستوحى منه عددًا من قصائده. وكان آخر نشاطٍ ثقافيٍّ يشهدُه البيت هو في ذكرى رحيل السياب في الرابع والعشرين من ديسمبر/كانون الأول الماضي، حيث أقام "منتدى السيّاب الثقافي" جلسةً ثقافيَّةً، استُذكر فيها الراحل بمشاركات من أدباء ونقّاد البصرة، إلى جانب قراءة مجموعة من قصائده في مكانه الأول.
هذا وأشار العديد من ناشطي ومُثقّفي البصرة إلى أن "بيت السيّاب الثقافي" سيكون مفتوحًا للزوّار للاطّلاع على تراث الشاعر وبيته وغرفته، وقريته جيكور التي ذكرها مرارًا في أشعاره.