رغم أنّ الحرب الأهلية اللبنانية (1975 - 1990) انتهت منذ أكثر من ثلاثين عاماً، ورغم أنّ هناك "جيلاً جديداً" قد نشأ بعيداً عن مسبّباتها المباشرة؛ فإنّ آثارها غير المباشرة ما زالت قائمة في الحياة الاجتماعية اللبنانية إلى اليوم، ونتائجها المدمّرة لم تكفّ للحظة عن أن تكون ملموسةً في حياة الناس السياسية والاجتماعية وكذلك الفنّية. وإحدى هذه الآثار أو النتائج هي قضية المُغيّبين والمُختفين قسرياً، والتي لم تلبث ملامحُها طويلاً حتى تشكّلت منذ سنوات الحرب الأُولى.
في هذا الإطار، شهدت بيروت إقامة معرضَين فنّيين يتناولان قضية المُختفين، حمل الأوّل عنوان "خط زمني" وأُقيم في مبنى جريدة "السفير" بين 16 و26 آذار/ مارس الجاري، والثاني اتّخذَ من عيد الأمّ في 21 منه مُفتَتحاً له، في خطوة رمزيةٍ تقود إلى موضوع المعرض الذي يتواصل في "دار المصوّر" حتى نهاية هذا الشهر، تحت عنوان "أمّ عزيز: عن أمّهات انتظرن طويلاً ثم رحلن...".
اختُطف أبناء أمّ عزيز الأربعة في مداهمات صحبت مجزرة صبرا وشاتيلا
وثّقَ "خطّ زمني" لأربعين عاماً من جهود "لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين"، والتي تأسّست عام 1982 على يد السيّدة وداد حلواني وأُخريات فقدنَ أزواجاً وأشقّاء وأبناء لهنّ، وما كانت سنوات السِّلْم لتعيدَهم إليهنّ، رغمَ كلّ الوعود والخطابات التي هدفت من خلالها السلطة إلى تمييع القضية، وإظهار نداءات الأهالي بوصفها مطالب قد عفّى عليها الزمن.
أتاح المعرض لزوّاره الاطّلاع على تجهيزات وصور فوتوغرافية وسجلّات توثيقية، تتضمّن أرقاماً وشهاداتٍ عن المُختفين الذين تبلغ أعدادهم، وفقاً لإحصاءات الأمن الداخلي اللبناني، 17 ألف مفقود/ة، من بينهم سوريون وفلسطينيون وليسوا لبنانيين فحسب، كما وثّق لـ 12 مقبرة جماعية. وعلى هامش المعرض عُقدت ندوة بعنوان "أربعون عاماً وقضية المفقودين ترفض أن تُفقَد"، شارك فيها حقوقيون وصحافيون يتابعون القضية، وهم: سحر مندور، وسمير سكيني، وزياد عاشور، ونزار صاغية.
أمّا المعرض الثاني، فقد خُصّص في أغلبه للأعمال الفوتوغرافية؛ وجاء تكريماً للسيدة آمنة حسن بنّات، وهي لاجئة فلسطينية اختُطفَ أربعةٌ من أبنائها إثر المداهمات التي صاحبت ارتكاب المليشيات اليمينية مجزرة صبرا وشاتيلا في 16 أيلول/ سبتمبر 1982، ولم يُقيَّض لأمّ عزيز التي رحلت في تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، أن ترى أبناءها مرّة أُخرى بعد ذلك اليوم.
يتضمّن المعرض صوراً التُقطت من قبل "دار المصوّر" خلال التحرّكات العديدة التي شاركت فيها أُمّ عزيز ورفيقاتها عبر السنين، وعرضاً وثائقياً قصيراً من إخراج رنين يوسف، يروي مسار حياة أمّ عزيز في مخيّم برج البراجنة، ورحلة البحث عن أبنائها: عزيز (30 عاماً)، ومنصور (25 عاماً)، وفيصل (22 عاماً)، وإبراهيم (13 عاماً).
تتوزّع صور المعرض على مراحل زمنية بين الحرب وما بعدها، أو بين الأبيض والأسود أوّلاً، ثم الصور الملوّنة في مرحلة لاحقة. ورغم أنّ ما يجمعها هو نظرة الحُزن في وجه أمٍّ حاولت جهدها أن تبقى متمسّكة بأمل العودة؛ فإنّ هذه الصُّوَر تذكّر من ناحية ثانية بعجز الدولة وسعيها إلى تناسي القضية وتحويل المغيّبين إلى مجرّد أرقام، وجعل القضية مسألةً خارج اختصاصها، ويُكلَّف بها الأهالي وحسب؛ وهذا ما أشارت إليه "دار المُصوّر" في بيانها، على لسان مؤسّسها رمزي حيدر: "نحن المصوّرين واكبنا على مدار سنوات التحرّكات التي كانت تقوم بها 'لجنة أهالي المخطوفين'، وحاولنا عبر الصورة أن ننقل الحدث ونبقيه حيّاً في ذاكرة ووجدان المجتمع".