كان يُفترض أن تكون حاضراً بيننا بقوّة هذا العام، فقد مرّت 250 سنة على ولادتك. لا يقع ذلك كلّ سنة. وقد تهيّأ لهذا الحدث مُحبّوك فخطّطوا لتظاهرات كثيرة تحمل اسمك، وندوات تدرس ما تركت لنا، وراجع العازفون مقطوعاتك فقد اعتقدوا أنهم سيعزفونها أكثر من أي سنة أخرى. ثم لم يقع من كل ذلك إلا القليل، فقد حرَم الوباء الناس من التجمّع معظم شهور العام، أليس ما حدث من "سخرية الأقدار"، الاسم الذي علق كعنوان شعبيّ - ربما دون رغبة منك - بسيمفونيتك الخامسة. غير أن الحسّ الشعبي محقّ إلى حد كبير، فضربات المدخل توحي بقهقهة لا تليق إلا بالأقدار. وأنت الوحيد الذي يسمع هذه الأصوات الخفيّة ويُترجمها في المحسوس. ثمّ ها أن ما يحدث في سنة عيد ميلادك الـ 250 شكل من أشكال سخرية الأقدار.
من حسن الحظ أن أعمالك متاحة في كل وقت. لا تحتاج إلى وساطة كي تبلغ الناس. لقد وَجدَت مكانها في كل المكتبات الصوتية، أوّلها يوتيوب الذي فرض نفسه، مع مواقع وتطبيقات أخرى، كمحامل لمعظم تراثك. لكن هل إن تراثك موسيقيّ فقط؟
شخصياً، لا أعتقد في ذلك، وأنا الذي تمنعني فروقات الثقافة والعصر من تذوّق الكثير من موسيقاك، ولا يزال كثير منها أكتشفه أو أنتبه إليه من حين إلى آخر وكأنك لا تتوقّف عن الإنتاج حتى بعد الموت. رغم ذلك، فأنت تسكن منطقة عميقة جداً في ذاتي، وأعتقد بأن هذه السكنى هي سرّك الأكبر. فأنت تسكن في نفوس أُناس كثيرين منذ أن أطللت على العالم بفنّك؛ مؤلفاً موسيقياً. نعم. كشكل حضور بارز، ولكن أيضاً كثائر ضدّ التراتبيّات الواهية، وكصاحب إرادة جبّارة، وكمفكّر وإن لم تستعمل المفاهيم والنظريات، وقبل كل شيء - وببساطة - أنت تحضر في النفوس كإنسان، بل لعلّك منعطف في تمثّل مفهوم الإنسان، وفي هذا المقام أودّ أن يكون خطابي هذا.
لا يمكن أن تنحصر اليوم في مجرّد تراث موسيقيّ
سأصارحك بأمر، أنا ممّن لا يحبّ أن يترك مصادر ذاته عابرة طيّ بواطنه، ولذلك لديّ دفاتر أخصّصها لمن أعتبرهم مصادر لذاتي، أتغذّى من إقامتهم في روحي وأسجّل وقع خطواتهم في عمري محاوراً إياهم. معظم هؤلاء من الكتّاب، أي أن الحوار معقود بيننا عبر القراءة والنصوص؛ دوستويفسكي، هايدغر، أبو العلاء المعري، روسّو، غرامشي، نجيب محفوظ، وهناك بعض الاستثناءات من خارج دوائر الكتابة، مثل سيّد درويش وفيروز وسعاد حسني وأنت. أنت بيتهوفن. بل إن لك موقعاً متقدّماً بين هؤلاء، ولذلك لم أرد أن أفوّت ذكرى ميلادك الـ250 دون توجيه هذا الخطاب إليك. هذا نوع من الدَين النفسي تجاهك.
هل يوجد منطق لموقعك هذا في نفسي؟ لا أدري ولكني سأحاول. طبعاً لن أتناول موسيقاك بالتحليل حيث لا أتوفّر على المؤهلات التقنية لذلك، وإن كنتُ أشعر أن جوهرها يصلني، وهنا يكمن سر آخر من أسرارك حيث تجرّد أحاسيس دفينة كالحيرة والطموح والحب والثقة ثم تذوّبها في كؤوس موسيقية. ولذلك أنت رفيق مناسب لكل مغامرة، تعرف على أي الأوتار تضرب لتشحذ الهمم. ولقد فعلت ذلك بأمّتك الألمانية في زمن تمزّقها، فكنت لحظة فارقة في تاريخها. أنت بهذا المعنى محرّر، يليق بك ذلك الاسم الذي أطلقته شعوب أميركا الجنوبية على محرِّريها؛ ليبرتادور.
يَذكر كاتبو سيرتك كيف ثرت غضباً ومزّقت نوتات سيمفونيتك الثالثة، وكنت سمّيتها "نابليون" حين ظننته محرِّراً، محرِّراً للإنسان في مطلقه، فلما أعلن نفسه إمبراطوراً وبدأ يغزو جهات الأرض بشعارات "الثورة" قرّرت أن يُحذف اسمه بلا رحمة من تراثك. جرّدتَ نابليون من وسام الفن منذ عرفت أنه لا يستحقه، ثم عرفتَ لاحقاً أن لا أحد يستحق أصلاً أن نُشخصن القيم الكبرى فيه، فلم تقع في الخطأ مجدّداً على الرغم من أن كثيرين كانوا يرعونك في فيينا وفي الممالك الألمانية التي مررت بها، ويطلبون أن تشير إليهم في عناوينك وإهداءاتك.
فنّ متحرّر من رعاته بل متحرّر من ذائقة الجمهور أيضاً
إلى هؤلاء كنت توجّه نفس الخطاب الذي وجّهته إلى الأمير ليشنوفسكي حين حاول أن يتودّد لضبّاط فرنسيين بدعوتك للعزف لهم، فانفعلت وقلت: "أيها الأمير، ما لديك أتاك بفضل الولادة، أما ما لديّ فلا أدين به إلا لنفسي. الأمراء، وُجد منهم كثيرون ويوجدون وسيوجدون، ولكن لا يوجد إلا بيتهوفن واحد". هذه اللهجة من الندّية هي سرّ آخر من أسرارك. في فنّك، كنت تضخّ هذا المعنى فتجعله متاحاً لكل إنسان. نار مقدّسة تمدّها للفانين كأحد أبطال الميثولوجيا.
وكما تعلم، فإن معظم الأبطال يحتكّون بقسوة الوجود كما لا يحتكّ بها غيرهم. ذلك حظهم في الحكايات كما في الواقع. ويا لها من قسوة أن من يُحكم على من صنعته الموسيقى وأصواتها الدقيقة أن يعيش نصف حياته أصمّ. رغم هذا القيد المؤلم، كنت تؤلّف أكثر فأكثر، بل استندت إلى إعاقتك تلك لتدخل مناطق لم يذهب صوبها أحد. باتت الموسيقى تدور في الذهن والقلب، قبل أن تصل إلى الأذن، بل لا يهمّ إن لم تصل إلى الأذن أبداً. هناك معنى تُطلقه ويعرف مستقرّه في النفوس، لأنه مركّب من الأبجدية الأولى التي تخلّصت من كل ما اصطنعته المجتمعات. كم كان الشاعر الفرنسي فيكتور هوغو قريباً من الدقة حين قال: "هذا الأصم يستمع إلى اللانهائي". تحوّلت اللعنة-المؤامرة إلى ألحان ضاربة في الروح، متدفقة، سوناتا ضوء القمر تحدّثنا عن ذلك بشكل هامس في حركتها الأولى وبكل حدّة وصخب في الحركة الثالثة، أو نشيد الفرح في رابع حركات سيمفونيتك الأخيرة، وهي تتحدّث باسم البشرية جمعاء.
بمناسبة ذكر هذه الأعمال، كيف تحضُرك مشاريع بهذا الحجم. يقال إن قمم الموسيقى الأوروبية ثلاث؛ باخ وموزار وأنت. كان مشروع الأول التعبير عن المقدّس عبر الموسيقى، وقام الثاني بالتعبير عن عظمة الطبقة الأرستقراطية في زمنها الذهبي، وكان هناك في كلا الحالتين طلب واضح لإنجاز هذين المشروعين. لكن مشاريعك تذهب باتجاه آخر. لا أحد يطلبها. إنها مشاريعك أنت وحدك، مشاريعك التي تلتقطها من أعماقك. ومن أعماق الجنس البشري. ولذلك هي لكل البشر.
أخيراً، أودّ أن أحدّثك بأمر من خانوك ويخونونك. كنت تكره كل تعالٍ، حتى أنك - وقبل أن تنال حظاً كبيراً من المكانة الفنية - قلت لأحد رفاقك من الموسيقيين: "لا تنحن لأحد لمجرّد أنه يحمل اسم عائلة أرستقراطية". أنت، يا لودفيغ الشاب، فهمت لعبة اللامعنى التي تسكن تلك الهرمية الاجتماعية، ولكن هناك من كان يحاول أن يُبقي موسيقاك للأرستقراطيين وحدهم.
هناك من عمل على عزلك في القصور، ولمّا زالت عملوا على عزلك بين جدران النخبوية، وهي شكل آخر من أشكال التعالي. لكن موسيقاك تُفلت في كل مرة.
مع ذلك، هناك من لا يزال يُجرم في حق فنّك بوجوه أُخرى. هل تعلم أن الأوروبيين يستشهدون بأعمالك بالذات كي يؤكّدوا تفوّقهم الفنّي دون بقية شعوب الأرض؟ أية جريمة هذه حين يستخدمون عبقريتك أنت بالذات لضرب كل ندّية في العالم؟ قل لهم يا بيتهوفن.