اختتمت، مساء أمس الأربعاء، في "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" بالدوحة ندوة "قضايا في فلسفة الأخلاق المعاصرة"، وهي الثالثة التي تقيمها فصلية "تبيُّن" المحكّمة التي تُعنى بالدراسات الفلسفية والنظريات النقدية ضمن انشغالها بمجالات الفلسفة العملية.
وفي الجلسات الثلاث لليوم الأخير، واصلت أوراق الباحثين قراءة أسئلة الأخلاق فلسفياً ورهاناتها من عهد النهضة إلى ما بعد الحداثة والكوني والمحلي، وأوجه حضورها في المجتمع ببنيتي الفرد والجماعة.
في الجلسة الأولى، تناولت ورقة محمد حبش الأستاذ المشارك في "جامعة أبو ظبي" التعثر النهضوي الذي يعانيه المشرق العربي تحديداً، ودور الحامل الأخلاقي في صناعة الإعثار ودوره في صناعة الحل.
اغتيال الأخلاق
تحت عنوان "سؤال النهضة والحامل الأخلاقي نكوصاً وقياماً"، قال حيش إنّ منظومة الاستبداد أسّست لسلسلة انحرافات أخلاقية كبيرة ومدمّرة، انعكست بشكل بالغ التأثير على الحياة المجتمعية، وتموضوعت في مفاصل السقوط الحضاري، وبات لزاماً على كل من يكتب في نهضة الأمّة أن يواجه تشويه المسألة الأخلاقية بوصفه سبباً جوهرياً في الانكسار.
وسجل المتحدث ثلاثة أطراف مسؤولة عمّا سماه "اغتيال الأخلاق"؛ هي الاستبداد ومشروعه المعادي للتكافل المجتمعي، والكهنوت الموالي للاستبداد والمبرر لسلوكياته، والظروف الاجتماعية والاقتصادية القاسية.
واقترحت الورقة أن الأخلاق تعرضت، كما قيم الدين والتراث، لتشويه حقيقي، نتيجة الهزيمة الحضارية، وقام المجتمع بوعيه الشعبوي بإلحاق سلسلة من الأخلاق الحيوية الفعالة في باب الرذائل، في حين صعد بسلسلة من التناقضات والرذائل التي تستجيب لنهمه للتشفي وتبرير الهزيمة ليعتبرها أخلاقاً حميدة.
وطرح حبش فرضيات مؤسّسة على تقديم القيم الأخلاقية بمعايير مستقلة بعيداً عن جرف الرهن السياسي والاجتماعي واشتراطات الموروث التراثي، وتحقيق مقابلة عرفانية بين القيم الأخلاقية في جوهر الإسلام، والقيم الأخلاقية التي انتهت إليها الشرعة الدولية عبر المواثيق الدولية في الحريات، وحقوق الإنسان، وحماية الملكية، والخصوصية.
الفضيلة والآداب
وفق النموذج السائد في فلسفة الأخلاق الحديثة والمعاصرة، نحكم على القيمة الأخلاقية للأفعال بحسب مدى توافقها مع المبادئ والمعايير والقواعد التي تعرف الفعل المستقيم، أو باعتبار النتائج التي يمكن أن يجلبها الفعل وإن كانت محمودة أو مذمومة.
وتبعاً لهذا النموذج، قال منير الكشو أستاذ الفلسفة في "معهد الدوحة للدراسات العليا" إن الآدابية والنتائجية النظريتان الأخلاقيتان الممكنتان في الفلسفة الأخلاقية الحديثة، في حين تنتمي أخلاق الفضيلة إلى نموذج ولّى زمنه وانقضى.
وطرحت ورقته، وهي بعنوان "أخلاق الفضيلة وأخلاق الآداب: أي صيغة للتوفيق بينهما؟"، السؤالين التاليين: إذا كان نموذج المبادئ والواجبات والنتائج هو المهيمن في الفلسفة الأخلاقية الحديثة، وليس نموذج أخلاق الفضيلة وما يعنيه من تفكير في المثل الأعلى للحياة الفضلى وفي الفضائل والطباع التي جبل عليها الاشخاص، فهل يعني ذلك حقّاً أن قضايا أخلاق الفضيلة لم تعد تشغل فكر الإنسان الحديث؟
فإن كان الجواب بالايجاب، يتساءل: كيف لنا أن نفسر الرواج الذي لقيته كتب صدرت في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي مثل كتاب الأميركي ألسدير مكنتاير "ما بعد الفضيلة"، وفيه ينتقد بشدة سيطرة الفلسفة الكانطية والآدابية، داعياً إلى عودة الفضيلة بمعناها الأرسطي، وكما تبلور في الثيولوجيا المسيحية، أو كتاب الفرنسي أندري كومت سبونفيل "دراسة مختصرة لفضائل عظيمة" الذي لقي رواجاً واسعاً.
سؤال فلسفي للأخلاق
في الجلسة الثانية تحدث يوسف سلامة، رئيس تحرير "قلمون"، المجلّة السورية للعلوم الإنسانية، عن "السؤال الفلسفي للأخلاق"، متناولاً النقاشات الثقافية والسياسية التي رافقت تنظيم قطر لكأس العالم من زاوية سؤال الأخلاق. وقد بدت تلك النقاشات، وما رافقها مطالبات، وكأنّ المجتمع القطري مجتمع متعدد الأعراق والثقافات، وأن القضايا التي طرحها الغربيون أصبحت جزءاً لا يتجزأ من اهتمام الدولة الراعية، مع أن هذه الدولة "تشكل وحدة ثقافية وعرقية متجانسة يحصل فيها الجميع على حقوق ثقافية متساوية".
وأسس الباحث أطروحته على أن الأخلاق تنشأ نتيجة للتطور الاجتماعي والسياسي، وأن كل عصر يصوع مذاهبه الأخلاقية.
ورداً على سؤال طرحه "هل هناك أخلاق عالمية يمكن للبشر أن يتفقوا عليها؟"، أجاب بأن الاتفاق ضمن أمّة على مذهب أخلاقي واحد من باب المستحيلات، وعالمياً يقف عند باب الأماني الطيبة مثل أن ندعو إلى السلام العالمي.
وخلاصة القول عنده أن التفلسف الأخلاقي سيتوالى كما تتتابع الكواكب في مداراتها، وأن التنوع الثقافي هو الحقيقة المركزية في الأخلاق، "وما علينا إلا أن نحتفل به فهو دليل الحرية المختلفة في تجلياتها".
أخلاق من دون أساس
جاءت ورقة علي حاكم صالح، الأكاديمي والمترجم العراقي، بصيغة سؤال "هل يمكن قيام الأخلاق من دون أساس؟ نظرات في أخلاقيات ما بعد الحداثة الغربية"، معايناً تيارات فلسفية معاصرة حاولت نقض ما قبلها، واختلفت سبلها إلى ذلك، وتباينت في مساحة النقض ومقاصدها.
وقال إن الوضعية المنطقية، مثلاً، وفلسفات التحليل اللغوي من بين تلك التيارات، ولكن كان هناك تيار فلسفي، ليس بالضرورة بين مفكريه اتفاق تام على كل شيء، ذهب إلى استئصال أساسات الفكر الفلسفي، فدعا بالفكر المناهض للأسس، أو ضد الأسس. وكان ذلك عماد فلسفة (فلسفات) ما بعد الحداثة الغربية.
وناقش صالح هذه الضدية أو المناهضة، مناهضة كل أساس، سواء أكان بعنوان الحقيقة، أو العقل، أو الواقع، أو غير ذلك. وتشمل هذه مناهضة إقامة الأخلاق على أسس ميتافيزيقية، أو عقلية، أو طبيعية، أو دينية.
وتابع بهذا الخصوص توجّها فلسفياً معاصراً هو الهيرمونيطيقا، التي باتت عند العديد من فلاسفة ما بعد الحداثة بديلاً فلسفياً رئيساً لا سيما بعد إعلانهم عن نهاية الميتافيزيقا أو موتها المزعوم.
وفي ثنايا هذا التوجه، أو من مبادئه، أو أبعاده، زعزعة الأسس وإحلال أخلاقيات أخرى مختلفة، بل تعريفات للموضوعية مختلفة، تعتمد التوافق أو الإجماع والحوار. فحلت أخلاقيات التأويل محل أخلاقيات ميتافيزيقية وطبيعية، كانت الفلسفة قد عرفتها عبر تاريخها الطويل.
نظرية تعاقدية
الورقة الوحيدة التي سلّطت تركيزها على النظرية التعاقدية كانت لمايكل مدحت، أستاذ الفلسفة الحديثة والمعاصرة في "جامعة حلوان" في مصر، وذلك في الجلسة الثالثة والختامية من المؤتمر.
وتحت عنوان "الرهانات الأخلاقية للتسامح في فلسفة توماس سكانلون"، تطرق الباحث إلى كتابات سكانلون المتعددة في مجال فلسفة الأخلاق، ومن ذلك نظريته التعاقدية، التي مفادها أن الهدف من الأخلاق ليس تراكم الأفعال الخيرة لتحقيق غاية أبعد مثل؛ تحقيق أكبر قدر من السعادة لأكبر عدد من البشر كما يرى مذهب المنفعة، ولا أن نحيا وفقاً لقوانين العقل (الأمر المطلق) والقانون الأخلاقي الكامن في أعماقنا كما يرى كانط، بل أن نصل إلى مجموعة من القواعد المشتركة التي "لا يوجد أي مبرر عقلاني لرفضها"، بهدف خلق عالم مشترك أكثر إنسانية نشعر فيه بالواجب تجاه رفاقنا من البشر.
وفي سياق هذه النظرية، وجد مدحت موقفاً فريداً لقيمة "التسامح"، حيث تتطلب منا أن نقبل غيرنا من البشر وأن نسمح بممارساتهم التي نختلف معها بشدة. وأورد بالنص عن سكانلون "المجتمع المتسامح الديمقراطي في سياساته غير الرسمية" التي تترجم في سلوك الأفراد واقعياً.
وفي الرد على سؤال "هل يمكن أن نفرض التسامح سلوكياً؟" نقل عن سكانلون الإجابة بـ"لا"، ولكن يمكن أن نجعل الأشخاص يرغبون فيه، و"هل يمكن أن نتبنى التسامح بوصفه مذهباً للدولة؟" الإجابة "نعم، لأنه سيمنح الحقوق المتكافئة لكل الأفراد وسيكون بالتالي عقلانياً بشكل أفضل".
أخلاق كونية
إذا كانت مساهمة يوسف سلامة نادت بالاحتفاء بالاختلاف الأخلاقي ومعاييره، فإن ورقة خديجة زتيلي، أستاذة الفلسفة في "جامعة الجزائر"، بعنوان "التربية بوصفها المؤسس لأخلاق كونية: رهانات إدغار موران نحو أخلاق للجنس البشري"، تذهب من عنوانها إلى مقلب معاكس.
ووجدت الباحثة أن أطروحات الفيلسوف الفرنسي المعاصر إدغار موران لا تخفي امتعاضه من طرائق التربية المعاصرة، التي فاقمت من أزمات الإنسان المعاصر بمناهجها التي لم تستطع أن تقدم خطاباً عقلانياً ينتصر للإنسان أينما كان، فسقطت بذلك في امتحانها الأخلاقي.
وعرضت زتيلي لما اقترحه موران، في هذا السياق، من بدائل معرفية يتقدمها إصلاح التعليم الذي يجب أن تتواصل فيه العلوم لا أن تتباعد في نظره.
وذكرت أن تنفيذ مشروع موران نحو أخلاق للجنس البشري أو نحو أخلاق كونية، خريطة طريق تتضمن المبادئ الأساسية التي لا يمكن أن تستغني عنها أي منظومة تربوية مستقبلية، مؤكدة ضرورة مراعاة خصوصيات المجتمعات وثقافاتها وقواعدها الأخلاقية للحفاظ على إنسانيتنا في هذا الكوكب المشترك "الأرض".
هذه الأرض - كما تتبنى - هي وطن الجميع، وأن تجديد التربية وإعادة قيم التضامن مرتبط بتجديد الفهم وإصلاح الفكر والمعرفة وفق ما راهن موران من أجل أخلاق للجنس الكوكبي.