تناول الباحث اللبناني خالد زيادة في سينمار "دراسة الهوية: مصر نموذجاً"، الذي نظّمه الثلاثاء فرعُ "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" في بيروت، بعض المفاتيح الأساسية حول مسألة العلاقة بين الهوية الوطنية والحداثة في العالم العربي، والوطنية وبدايات دخول هذا المفهوم إلى الأدبيات العربية، والثورات التي دعت إلى دولة ووحدة عربية، وعوامل اللغة والدين والتاريخ.
قارن زيادة بين نموذج الحداثة الذي شهدته مصر منذ بداية القرن التاسع عشر، مع بناء محمد علي باشا لجيش حديث، وما ارتبط به من تعليم وحركة تصنيع، وما استتبع ذلك من تنظيمات إدارية تبلورت معها فكرة المدى الجغرافي لمصر، وبين إدارة حديثة عرفها لبنان مع تأسيس متصرفيّة جبل لبنان عام 1861، وما سبقها من تطوّر في المعاهد التعليمية والمدارس والصحافة والترجمة، وصِلتها مع مفاهيم الحداثة.
كما أشار صاحب كتاب "المسلمون والحداثة الأوروبية" إلى أن تعبير الوطنية برز عربياً منذ ستينيات القرن التاسع عشر، إذ نجده لدى رفاعة الطهطاوي في كتابه "مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية" (1869)، كما نجده في العديد من محاضرات بطرس البستاني التي تناول فيها الوطن السوري والعروبة، حيث نشأت الوطنية في ظلّ عوامل مختلفة صاغت هذا المدى الذي يمكن اعتباره "الوطن"، ومنها الإدارة الحديثة، وتمثيل الأقاليم والمحافظات، وصولاً إلى الدستور.
وبخصوص الدور الذي تلعبه الثورات، عاد إلى ثورة عرابي عام 1879 التي قامت ضد العناصر غير المصرية في الجيش المصري، كالشركس والأتراك، حيث ساهمت في بلورة وطنيةٍ ما، ثم ثورة 1919 التي ثبّتت ركائز الوطنية المصرية، وبين الثورتين أُنشئ العديد من الأحزاب، وكلّها تدور حول فكرة الوطن المصري وفكرة شعبٍ له سمات محددة.
ولفت صاحب كتاب "تطوّر النظرة الإسلامية إلى أوروبا" إلى أن فكرة العروبة في المشرق ظهرت وكأنها في تضادّ مع العثمانية، وهو ما لا نجد نظيره في المغرب، حيث كانت العروبة ذات اتصال وثيق بالإسلام، وحيث لعبت جمعيات دينية إصلاحية دوراً في نشوء الحركة الوطنية. وأوضح أن صياغة الفكرة الوطنية في العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين كانت على يد المثقفين الذين كانوا على اتصال مع الثقافة الغربية عن طريق البعثات الدراسية في أوروبا والترجمات، وتعرّف هؤلاء المثقفون إلى التاريخ الإسلامي والحضارة العربية من خلال الباحثين الأوروبيين.
برزت فكرة الوطنية عربياً منذ ستينيات القرن التاسع عشر
وتوقّف كذلك عند الاكتشافات الأثريّة في مصر ولبنان وسورية والعراق، التي تركت أثراً كبيراً في صياغة الأفكار الوطنية، وأوجدت أسساً صلبة تستند إلى العُمق التاريخي، فيما بقيت الحضارة الفرعونية تلعب دوراً في الهوية الوطنية المصرية (خلافاً لانبعاثات أخرى خفتت مثل الفينيقية في لبنان)، مع وجود تعقيد في التعامل مع التاريخ الأقرب، قياساً في التاريخ الأبعد، حيث تمّ تحييد دور الأسرة العلوية بعد حركة تموز/ يوليو عام 1952.
وبيّن السفير اللبناني الأسبق في القاهرة أن اللغة العربية لعبت دوراً مهمّاً في تحديد الشخصية الوطنية والهوية القومية، مع الفارق بين الأمريْن أو التنافر بينهما أحياناً، حيث شكّلت عامل توحيد لكنها أيضاً كانت عامل خلافٍ ونزاع في بعض البلدان، كما في العراق بين الكردية والعربية، أو الأمازيغية والعربية في المغرب، وكذلك الحماس الذي برز في فترة ماضية حول اللهجات الدارجة في مصر ولبنان ثم خفوته لاحقاً. ومع ذلك، تسلّلت العاميّة إلى المسرح والغناء، وبات الميل إلى استخدامها اليوم أوسع، بعد هيمنة الفصحى لعقود ماضية.
وتمّ استبعاد الدين، بحسب المحاضر، من عناصر الهوية في المشرق العربي، بداية القرن العشرين، من دون الذهاب إلى تبنّي علمانيةٍ مطلقة. وظلّ الدين محور نقاش حول مقدار ما يلعبه من دور في تحديد الهوية الوطنية، كما كان أحياناً موضع تساؤل، خصوصاً في البلدان التي تضمّ مكوّنات مختلطة، مثل العراق ومصر.
وحول الحالة المصرية، أشار زيادة إلى دور المؤرخين في نشأة الروح الوطنية، مثل عبد الرحمن الرافعي وسلسلة مؤلّفاته حول تاريخ مصر الحديث منذ دولة محمد علي، ومن قبله محمد صبري (المعروف بالسوربوني)، معتبراً أن ثورة 1919 كرّست الوطنية المصرية ولم تعد الفكرة القومية العربية موضع نقاش، حيث تمّت صياغة هذه الوطنية في الفترة التي تُعرف بـ"الفترة الليبرالية" مع طروحات حسين مؤنس وشفيق غربال وغيرهما ممن تأثّروا بالعلوم الإنسانية الحديثة وحاولوا استيعاب الحضارات السابقة للوصول إلى سياق تاريخي مشترك.
وأشار المحاضِر إلى أنه رغم اكتشاف مصر لموروثها الفرعوني قبل حوالي مئة عام فقط ــ إذ لم يتنبّه المثقفون المصريون لحضاراتهم القديمة إلّا بعد الحرب العالمية الأولى، في حين اكتُشفت مقبرة توت عنخ آمون عام 1922 ــ إلا أنه أصبح جزءاً أساسياً ومكوّناً في هويّتها وتاريخها.
قراءة مقارَنة في نماذج الحداثة في أكثر من بلد عربي
في مداخلته، أوضح الباحث السوري محمد جمال باروت أن "الهوية المتجانسة عبارة عن خرافة لا أكثر، وحتى الهويات التي تعتقد نفسها متجانسة نجد عند تفكيكها أنها تقوم على نظم رمزية أنثروبولوجية وثقافية مركّبة ومتعدّدة، فإذا نظرت إلى الهوية التونسية تجدها في الظاهر هوية متجانسة لكن إذا ما فككتها ستجد أنها جماع عدد هائل من الأنظمة التي تشكّلها، وأظن أن هذا ينطبق أيضاً على حالة مصر"، لافتاً إلى أن هناك فرقاً ما بين الإثنية، وهي جانب من الهوية، وبين قومنتها، فالقومنة هي التي تعطى معنى سياسياً للإثنية. ومن جهة أخرى، فإن القومية الفرعونية أقرب إلى القوميات الأركيولوجية التي بعثتها حركة الاكتشافات الأثرية، ثم أُسقطت عليها الخيالات الأيديولوجية والسياسية المعاصرة وتمّت قومنتها.
أما الباحث العراقي حيدر سعيد، فاعتبر أن الهوية الفرعونية ليست خياراً إشكالياً، إذ لا يمكن أن تفرّط دولة ناشئة في موروثها الحضاري، كما في العراق، حيث الهوية الرافدينية شكّلت مكوّناً أساسياً في هويته حتى لدى نظام البعث، لكن فكرة القومية ترجمت في مصر بهوية الدولة منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، في حين أنها ترجمت في بلاد الشام بالهوية الحضارية العربية، وحدث تحوّل مع الناصرية مرتبط باكتشافها أن مصر يمكنها قيادة العالم العربي في إطار المصالح المتبادلة.
وأشار الباحث المصري عبده موسى إلى تساؤل "إزاء من تتكوّن الهوية؟" لأن الإجابة عنه تفسّر كيفية استدعاء السرديات من الماضي لتعزيز مواقع المنادين بهوية ما، كما تحدّث عن التصوّرات اللانخبوية للهوية، مبينّاً أن بدو سيناء والنوبيين وأهل الصعيد يرون أنفسهم عرباً وليسوا فراعنة كما رأت نفسها بعض النخب في مصر.
بدوره، أكد المفكّر العربي عزمي بشارة على بعض التمييزات في إطار انشغاله في قضايا الهوية منذ إصدار كتابه "في المسألة العربية.. مقدمة لبيان ديمقراطي عربي"، مبيّناً أن هناك خلطاً في بعض الأحيان بين الهوية والبنى الثقافية والاجتماعية، حيث الهوية مسألة مرتبكة مطّاطة مرنة من الصعب ضبطها باليد، خاصة أن كثيراً من المشتغلين على الهوية يعتبرونها جزءاً من علم النفس الاجتماعي، باعتبارها قضية تماه وانتماء. واقترح أنه إذا أردنا أن نأخذ موضوع الهوية التي تبدأ من تماهٍ، فإنه يحتاج إلى مدخل خاص غير المدخل الثقافي التاريخي السياسي الذي تحدّث فيه خالد زيادة، مدللاً على ذلك بالقول إنه حتى لو عرّف العراقيون أنفسهم غداً بأنهم بابليون، فإن واقعهم الثقافي هو عربي، كما أن طه حسين حين كان يتحدّث عن المتوسط لكنه في النهاية أديب عربي، ويكتب في الأدب العربي، وثقافته عربية إسلامية شاء أم أبى، وهو محكوم لبنية ثقافية، فمسألة الهوية والتماهي متغيّرة بحسب الظروف السياسية وهي تُبنى وتركّب كما يفعل القادة السياسيون وإذا نحجوا في ذلك قد تتغيّر البنى الثقافية فعلاً عبر الزمن، والدولة تقوم بذلك عبر برامج التدريس والطقوس والاحتفالات الرسمية والأعياد والرموز.
وقال بشارة إنه عند تناول الهوية تتم العودة دائماً إلى أسماء محدّدة، مثل أحمد لطفي السيد وطه حسين، متسائلاً كم شخصاً كان يقرأ لهذه الأسماء، مشيراً إلى أن الإثنية تعبير عن إيمان حقيقي أو متخيل بالانتماء إلى أصل مشترك، بينما تقوم مسألة القومنة على تسييس عندما تنشأ للجماعات العرقية قيادة تمتلك طموحات أن تنبني هذه الجماعات كياناً سياسياً حيث يبدأ الحديث عن القومية، لذلك تبدو التمييزات هنا ضرورية، العرب – مثلاً – العرب آمنوا إثنياً بوجود أصل مشترك، وأنهم يتحدّرون من قبائل معينة ويتكلمون لغة عربية ويمتلكون ثقافة عربية، والقومية العربية أضفت على هذا الانتماء الإثني طموحاً سياسياً بأن العرب يستحقون دولة أو كونفدرالية أو جامعة عربية، وكانت مصر من المؤسسين للجامعة العربية في عزّ فترة النقاش حول الوطنية المصرية.
وخلص صاحب "أن تكون عربياً في أيامنا" إلى ضرورة التمييز بين هذه المستويات المتعدّدة حتى لا نرتبك وندخل في تناقض بين الوطنية المصرية والهوية العربية حتى لو خاض حولها المثقفون صراعاً حاداً وحدّدوا الصياغات حول هذه المفاهيم، لكن عامة الشعب تختلط عندها هذه المستويات وتعيش مركبات متناقضة، وعند العودة إلى السلالة التي بنت مصر الحديثة، نجد أنها لم تكن عربية، ولم يكن بالإمكان إلا بلورة وطنية مصرية متميزة عن العروبة، وهذا لا يمكن ادعاؤه في المشرق العربي أبداً.
كما نبّه بشارة من خطورة الانزلاق وراء النقاش الآني الذي يحصل خلال الأزمات والصراعات والتي يكون فيها انحلال ثقافي يرافقه انحلال أخلاقي، وانحلال قومي وديني أيضاً، كما يحدث في الدعوات حول أن السوريين ليسوا عرباً، وهي تعبيرات اليائسين والمحطّمين الذين في خضم عدائهم لأيديولوجية حزب البعث باتوا يرفضون عروبتهم، وهي ستكون أساساً لتفكيك سورية إذا استسلمنا لهذه الفوضى المصطلحية والديماغوجيا الشعبوية.