خالد المصو.. جبرا إبراهيم جبرا في تجاربه الأُولى

28 ابريل 2024
(من العرض)
+ الخط -
اظهر الملخص
- جبرا إبراهيم جبرا، الروائي والناقد الفلسطيني، يعكس في أعماله مثل "البئر الأولى" و"شارع الأميرات" حنينه لمدن طفولته بيت لحم والقدس، مستكشفًا جذوره وتجاربه الأولى في زمن كانت الأيديولوجيا تهيمن على المشهد الثقافي.
- "البئر الأولى" ترمز للطفولة والبدايات، تعكس الظروف الصعبة من فقر ولجوء التي مر بها جبرا، مؤثرةً بعمق في شخصيته وكتاباته، مشيرة إلى أهمية الحداثة كأساس للتحرر.
- عرض مسرحي "جبرا" يجسد سيرة جبرا الذاتية، مبرزًا التحديات والتضحيات في طفولته وحلمه بالعودة إلى فلسطين، عرض يعبر عن مساحة حلمية متمردة ومأساوية لحياته، ولكن حلم العودة لم يتحقق بوفاته.

مدفوعاً بالحنين إلى مدينته بيت لحم، والقدس التي صاغت تكوينه الشخصي وظلت حاضراً في العديد من أعماله، أصدر جبرا إبراهيم جبرا كتابه "البئر الأُولى" (1987) في مرحلة متأخّرة من حياته، أضاف عليها فصولاً أخرى في "شارع الأميرات" الذي أنهاه قبل رحيله بأشهر، مضيئاً جوانب من سيرته في بغداد.

بين زمنين لم يغبا عن كتابات الروائي والناقد والتشكيلي الفلسطيني (1920 - 1994)، بدت السيرة لدى عدد من النقّاد، محاولة متقصّدة للانكشاف على الجذور التي لم يتحدث عنها صاحبها إلا قليلاً، خاصة أنه كان خارجاً على الأيديولوجيا والالتزام، اللذين هيمنا على المشهد الثقافي العربي في تلك الحقبة، ومتشبعاً بالحداثة التي بشّر بها كأساس للتحرّر والتقدّم.

تُبرز مونودراما "جبرا"، التي عُرضت مساء الخميس الماضي في "مسرح الرينبو" بعمّان وأداها الممثل الفلسطيني خالد المصو، منبته الطبقي الذي التبس على كثيرين وضعوه في خانة "المثقف البرجوازي"، حيث والده عامل المياومة لم يجد ما يسدّ به الاحتياجات الأساسية لعائلة فقيرة تنقّلت بين سبعة بيوت شكّلت البئر أهم عنصر فيها بتمثلات متعدّدة، فهي تشير إلى وعاء المعرفة والعلم الذي ملأه بكّل ما تعلّم.

مساحة حلمية متمرّدة كوّنت شخصية جبرا، ممتزجة في الوقت نفسه مع بعد مأسأوي

وهي؛ أيّ البئر، كانت السؤال الأول الذي تحدّد إجابتُه إمكانية الانتقال للسكن في كلّ بيت ترحل إليه العائلة، وهو محمّل بما هو أكثر، حيث يكتب جبرا: "والبئر الأُولى هي بئر الطفولة. لأنها تلك البئر التي تجمّعت فيها أُولى التجارب والرؤى والأصوات، أولى الأفراح والأحزان"، لتصبح إشارة على البدايات التي تضج بلهو الأطفال وحماقاتهم ورغباتهم التي قد تتسبب بمعاقبتهم.

وهذه البدايات، نجح الممثل خالد المصو في تقديمها، كما تعكسها مجموعة مشاهد تبتدئ بدعوة جبرا أقرانه دون علم والدته لتناول "الهيطلية"؛ حلوى الحليب التي تشكل وجبة العائلة الوحيدة في كثير من الأيام، فأجهزوا عليها، ولولا تدخّل الجدة لنال عقوبة قاسية، ومرة أُخرى تحرّكه لذّة طفولية حين حصل على نصف قرش من جدّته لشراء دفتر، سيمزّق كامل أوراقه ليصنع منه "طقاعات" تصدر أصواتاً، ما يسبب طرد المدرس له،

(من العرض)
(من العرض)

يلتزم العرض بتقديم تلك الحوادث كما قدّمتها السيرة، حيث تنزاح تلك المشاهد من دون تعقيب أو تحليل لها، فهي تعبير عن مساحة حلمية متمرّدة كوّنت شخصية جبرا، ممتزجة في الوقت نفسه مع بعد مأسأوي يرتبط بالفقر، ولاحقاً بالاحتلال واللجوء.

الطفل الذي يبحث عن فسحة للعبث والتسلية، يتعرّض لصدمة كبيرة حين اضطرت العائلة لبيع أول حذاء ظلّ يحلم بامتلاكه حتى أهداه إياه راهب الكنيسة بمناسبة أعياد الميلاد، من أجل أن يشتروا طعاماً ومؤنة؛ حادثة تركت أثرها المؤلم لدى جبرا، واستطاع تصويره المصو ببراعة واحتراف.

وفي مشهد آخر، يحاور الطفل جبرا شقيقه يوسف الذي ترك المدرسة ليساهم في الإنفاق على العائلة، ولكن الظروف تسوء أكثر بعد ان أقعد المرض والدهما ولم يعد بإمكانه العمل، فيقرر جبرا ترك المدرسة أيضاً، لكنه يواجَه بغضب عارم من يوسف الذي يكدح ويتحمل صعوبات الحياة من أن أجل يحصل جبرا على شهادة تؤهله لوظيفة تمنح العائلة دخلاً أفضل. تضحية الأخ الأكبر لن تُمحى من ذاكرة جبرا، ولن ينسى أيضاً مجموعة كتب أخيه التي تركها خلفه وذهب للعمل في القدس.

لم يقدّم العمل صورة واضحة عن حياة جبرا في القدس التي انتقل إليها في الثانية عشرة من عمره، مثلما نسجها في بيت لحم، لكن نصّ المسرحية، الذي أعدّه طارق السيد مع مخرجها إميل سابا ومؤديها خالد المصو، إذ كانت الزيارة الأولى إلى القدس برفقة والدته من أجل بيع حذائه. ربما احتاجت تلك المرحلة المقدسية معالجة مختلفة لا تتوافق مع المرحلة الأولى.

بئر أولى تتعدّد معانيها وصورها بحسب العرض المسرحي الذي اجتهد فريق عمله في الإمساك بتلك البئر التي "إذ يعود إليها كل مرة، فهو إنما يرد ينبوعاً دائم الفيض في طوايا إنسانيته"، بحسب تقديم جبرا لسيرته. اجتهاد قاد الفريق إلى البحث عن نهاية معبرة ومتوافقة مع ثيمات النص، جسدّتها مكالمة جبرا مع ميسر الذي حدّد السادس من حزيران/ يونيو 1996 موعداً لعودته إلى فلسطين التي لم يرها منذ أن هُجّر منها قسراً سنة 1948، لكن الموت خطفه في الثاني عشر من كانون الأول/ ديسمبر 1994؛ عودة ظلّت محفزاً للكتابة والتبشير بلحظة التغيير التي حلم بها وأخلص لها طوال حياته.

المساهمون