حُزن النُّحاة 3

22 أكتوبر 2022
منمنمة تتوسّط إحدى صفحات "شاهنامه" للفردوسي، أوائل القرن الرابع عشر (Getty)
+ الخط -

"إن كانَ النحو ما يقولُه الرمّاني، فليس عندنا منه شيء، وإن كان النحو هو ما نقولُه فليس عند الرمّاني منه شيء". مقولةٌ أطلقها النحوي أبو علي الفارسي (288 ــ 377 للهجرة/ 900 ــ 987 للميلاد) بحقّ نحويّ مُعاصر له، وهو أبو الحسن الرمّاني (296 ــ 384 هـ/ 909 ــ 994 م). لكن لو توخّينا الدقّة أكثر فالأخير ليس معاصراً للأوّل فحسب، بل منافسٌ له في "الطبَقة" أيضاً؛ إذا ما استعرنا من التصانيف التراثية مصطلحاتِها في ترجمة الأعلام، ملتفتين إلى أحكام أطلقها نحويّون بحقّ بعضهم بعضاً، وبعيداً عمّا يتعسّفه مشتغلو حقول أُخرى بحقّ القوم، الأحكام هُنا داخلية بين أبناء المصلحة الواحدة.
 
في مقولة الفارسي ما فيها من غمزٍ صريح، وهذا ليس غريباً عن رجلٍ لم يوفّر أحداً من تقييماتِه حتى طالت المتنبّي وشِعرَه، والأخير كان لا يزالُ حيّاً يُرزَق والناس تخشى هجاءه، لولا أنّ ابن جنّي قد حلحل الأمور بينهما لاحقاً. إلّا أنّ ما يهمّنا منها أنّها أسّست في الحقل النحوي إلى رمي مادّة الآخرين بالغموض من باب الحطِّ والتعريض بما لديهم، وبطريقة لا تخلو من الاستسهال، خاصّة أنّ مادّة الفارسي ذاته لم يُشع عنها قطّ بأنّها سهلة يسيرة.
 
بالمقابل صحيح أنّ مادّة صاحبنا المعتزلي قد تكون أيسر من مادّة غريمه صاحب "غريب القرآن"، لكنها قطعاً ليست كمادّة أبي سعيد السيرافي (284 ــ 368 هـ)، الذي تصدّى لشرح "الكتاب" (كتاب سيبويه)، وتصدَّر عملُه شروحاتٍ عديدة منها شرح الرمّاني. إيكاداً لذلك فشَت مقولةٌ يمكنُ وصفها بـ"المُضادّة" لمقولة الفارسي وما فيها من توزيع وتقسيم للآخرين على خرائط الوضوح والإلغاز؛ مفادُها: "إنّ أهل الأدب يحضرون مجالس ثلاثة؛ فيفهمون كلّ ما يقول السيرافي، وبعض ما يقول الفارسي، ولا يفهمون شيئاً ممّا يقول الرمّاني".

تحوّلت مقولة الفارسي إلى نظيمة فكرية مغلقة ثمّ ارتدّت عليه

لا يُعرَف أيّ المقولتين أسبق، ولو أنّ عواقب وآثار كلٍّ منهما ملموسة بغضّ النظر عن الزمان والحقل، فأيّ نصّ يُرمَى بالغموض يكون الحُكمُ في تلقّيه مُشكِلاً، ومن الصعب ألّا يواجِه حُكمَ التجفيف من أيّة منفعة "ليس عندنا منهُ شيء". بل إنّ خطورة الشائع من الأقوال أنّها قد تتحوّل إلى نظيمات فكرية مُغلقة، نحن نعلم رأي الفارسي بالرمّاني، ولكن لا نعلمُ رأي السيرافي بالاثنين. أمّا لو تتبّعنا هذه المقدّمات بصورة منطقية لارتدّت مقولة الفارسي عليه في آخر المطاف، إذ يحقّ للسيرافي أن يحكمَه بها على اعتبار أنّ مادّته أوضح.
 
في "الإمتاع والمؤانسة" يتحدّث أبو حيان التوحيدي (310 ــ 414 هـ) - وهو بالمناسبة تتلمذ على السيرافي - عن انقلابٍ في موقف الفارسي من الرمّاني بمرحلة متقدّمة من المنافسة بين ثلاثةٍ هم ليسوا من مؤسّسي العِلم (النحو)، كما سيبويه وطبقته أو ممن سبقه، بل إنّ هؤلاء الثلاثة هم مقوّمو العلم ومؤصّلوه. إذ يبدو أن تخصُّص السيرافي بالنحو لاحقاً وإخراجه للناس شرحَه، جعل الفارسي "يتّقد غيظاً عليه، وقد حال غيظُه إلى جحود، فأخذ هو وأصحابُه، يفضّلون الرمّاني عليه، حينَ يُطلَب إليهم الموازنة بينه وبين أبي سعيد".

موقف
التحديثات الحية
المساهمون