حين يسقط الفلاسفة الألمان في امتحان غزّة

07 فبراير 2024
الشرطة الألمانية تقف بوجه متظاهرين مع فلسطين، دوسلدورف، 30 كانون الأول/ديسمبر 2023 (Getty)
+ الخط -

تكمن المفارقة الكبرى التي أرّقت المفكّرين خلال عقود في التناقض الصارخ بين الفلسفة العقلانية - الأخلاقية التي انتقد إيمانويل كانط عقلَها المحض ومقولاته الصورية، وبين فظاعات التاريخ التي ارتُكبت أثناء الحرب العالمية الثانية فتجاوزت كلّ حدّ معقول وكلّ حسّ أخلاقي مأمول.

دخلت ألمانيا، بعد ذلك، في حال من تأنيب الضمير على ما صدر من هيئاتها السياسية والعسكرية، وأطلقت مسار "توبة جماعية" عبّرت عنها بمساندة مطلقة لليهود، بعد أن أذاقتهم هي بذاتها الأمرَين، لتغدو هذه المساندة عقيدةً والخوضُ في أسبابها ومسوّغاتها محظوراً لا يجوز أن يُنتهك. بل أصبحت جزءاً من اللامُفكَّر فيه وما لا يجب التفكير فيه حتى لدى أكبر المثقّفين الذين يقدّسون حرّية الفكر ويدعون إلى عدم التقيّد بأيّ منظور مسبَق، فضلاً عن العقائد الأيديولوجية الثقيلة. 

وما إن وقعت أحداث السابع من تشرين الأوّل/ أكتوبر، حتّى سارعت ألمانيا إلى إظهار الولاء المطلَق لـ"إسرائيل"، موفّرةً لها غطاءً سياسياً ودعماً عسكرياً لا حدود لهما. وهو ما أعادَ السؤال صريحاً: أين العقلانيّة في هذه المواقف؟ من هنا كان لا بدّ من تفكيك الحجج التي يقوم عليها هذا التصوّر وتحليل أُسس خطابه.

في هذا التصوّر، تقوم الحجّة الأُولى على مبدأ الذاكرة، ومفاده أنّ الشعب الألماني محكومٌ بعقدة اضطهاده لليهود، ولذلك فهو لا يريد اليوم أن يعود إلى تلك الحقبة المظلمة من تاريخه، وعليه أن يحارِب كل نزعة "لاسامية" حتّى لا تتطوّر إلى مشاعر كراهية، فتتجسّد في أعمال عنف جديدة ضدّ اليهود. كما صار التضامن معهم بمثابة التكفير عن الذنب التاريخي والتوقّي من تكراره في المستقبل.

ويضيف المنظّرون لهذا المبدأ أنّ للذاكرة مساراتها ووظائفها وهي التي تُملي الوقوف ضدّ أيّ شبحٍ لعودة جرائم النازية التي قد تنبثق من التضامن مع فلسطين. وغنيٌّ عن القول إنّ هذه السردية متهافتة، وهي تحمل بصمات الرؤية الإسرائيلية التي لا تنبني على أيّ استدلالٍ متين. وإلّا فما علاقة احتلال يجثم على أرض فلسطين، منذ خمس وسبعين سنةً، مع ما رافقه من حروب واضطهاد طاولت ملايين الفلسطينّيين، وما حصل منذ الثامن من تشرين الأوّل/ أكتوبر من تقتيل وتهجير وتدمير لغزّة، بما ارتكبه الألمان في ماضيهم ضدّ يهود أوروبا؟ ثمّ ما ذنب فلسطينيي اليوم فيما اقترفته يدُ النازية أمس؟ أفلا يقول هؤلاء إنّ الغاية البعيدة هي منع تكرار جرائم الإبادة عموماً؟ فلماذا إذاً يشرّعون ارتكابها ضد الفلسطينيّين ولِمَ يصمتون أمام فظاعاتها، في حين أنها لا تختلف عن مثيلاتها أثناء الحرب العالمية الثانية وبعدها وقبلها؟

سردية ألمانية متهافتة تحمل بصمات الرواية الصهيونية

تَعتبر الحجّة الثانية، وهي ذات طابع اقتصادي، هذه المساندة ديْناً، تبادلاً خاضعاً لقوانين العرض والطلب والتسلم والتسليم، مع إلحاح أصحابها على أنّ إعادة بناء ألمانيا اعتمد على أثرياء اليهود، فهُم الذين أوقفوا اقتصادها على قدمَيه بعد أن انهار بسبب الدمار الذي خلّفته الحرب العالمية. هذه الرؤية أحاديّة مضخّمة، تسعى إلى أن تفسّر نهضة الاقتصاد في هذا البلد فقط بالتضامن اليهودي وتربط ازدهاره حصراً بلوبياته ومجموعات ضغطه، في حين أنّ للاقتصاد عوامل متداخلة، بل لعلّه بُني أساساً على التسهيلات والامتيازات التي تحصّلت عليها ألمانيا من دول العالم الثالث في نهبٍ مقنَّع لمواردها، فضلاً عن تعاملاتها مع روسيا والصين وبلدان أفريقيا. ولذلك لا تعدو هذه المساندة أن تكون وهماً آخر يُباع في سوق التضليل، غايته إقناع العموم بأنّ موالاة "إسرائيل" مصلحة اقتصادية بحتة. 

مقابل هذا، وفي إطار التفنّن في إيراد المسوغات، تلجأ السُّلطات الألمانية إلى "التاريخ"، هذه الهلامة الانفعالية المركَّبة من خيالات وهواجس تسمّيها "الماضي"، من أجل تبرير التشدّد في محاربة ما تعتبره "معاداة للسامية" الذي هو، في حقيقته، تضامنٌ وتعاطف مع فلسطين وشعبها في وجه الدمار الشامل الذي تعرّضت له ولا تزال.

فقد اعتبرت هذه المساندة، حسب ما ورد على لسان المستشار الألماني أولاف شولتز "علّة الدولة" وسبب وجودها، أو ما صاغه روبرت هاباك، نائب المستشار من حزب الخضر حين قال: "هذه مسؤولية تاريخية، على ألمانيا أن تضطلع بها بسبب مسؤوليتها عن المحرقة".

والغريب كيف يسوَّغ لهذا التدمير الإسرائيلي للشعب الفلسطيني بالعودة إلى التاريخ الذي صار ذريعة تُستحضر بحسب الغايات والمصالح؟ ثمّ أليس هذا هو نفسه منطق الأحزاب الدينية المتشدّدة في كل الثقافات: الاتكاء على نموذج ماضوي ولّى وإجبار التاريخ الراهن على الاقتداء به؟

كذلك سارعت ألمانيا الى الدفاع عن "إسرائيل" حين رفعت جنوب أفريقيا ضدّها دعوى الإبادة الجماعية في غزّة. وبعد يوم، ذكّرت ناميبيا بمجازر إبادة اقترفها الألمان في حقّ القبائل المحلّية. ولعلّ السؤال الضمني هنا: هل تشعر ألمانيا بالذنب تجاه ناميبيا؟

ما ذنب فلسطينيّي اليوم في ما اقترفته يدُ النازية أمس؟

إذ يقتضي المنطق البسيط أن يتحمّل الألمان تبعات جرائمهم وليس غيرُهم، كما يقتضي ألّا تتكرّر هذه الفظاعات ضدّ أيّ شعب آخر من شعوب الأرض. ولا وجهَ للتشدّد في منعها ضدّ اليهود، والسماح بها، بل والتواطؤ فيها، ضدّ شعب فلسطين، كأنّه لا ينتمي إلى جنس البشر، وكأنّ إدانة الإبادة لا تصدق إلّا إذا طاولت اليهود، وأمّا إذا مسّت غيرهم من أبناء الحياة فلا حرج. وهو ما يكشف شعوراً بالمركزية الغربية المَقيتة ومعها ضرورة الحفاظ على السكينة النفسية للضمير الألماني أو الأوروبي بقطع النظر عما سيكابده الفلسطينيون من دمار وتقتيل، وهذا وهم آخر من أوهام العظمة التي تُداعب المخيال الألماني وترى فيه أساساً للدولة وما هو في الحقيقة سوى استمرار للعقلية الاستعمارية التي لا تزال ترى في الآخر كائناً خارج التاريخ، لا يستحقّ أن يتمتّع بنفس شروط وجود الإنسان الأورو-أميركي، ولا بنفس امتيازاته وحقوقه.

فبعيداً عن تماسك الفلسفة، تبدو هذه المواقف الألمانية مجرّد انفعالات تمليها هُلامة يطلقون عليها مصطلحات غائمة مثل: "الذاكرة"، و"المسؤولية" و"التاريخ"، كأنّها حكر عليهم، وكأنّ الشعوب الأُخرى لا تتوفّر على نفس هذه المقوّمات الإنسانية.

وفيما يُنتظَر من المفكّرين والفلاسفة أن يجابهوا هذه المواقف التي تتبنّاها بلادهم، نجدهم يعملون على تسويقها وتسويغها واقعين في فخاخ السردية الإسرائيليّة وفي تلاعبات خطابها بكثير من التسليم الفكري الذي ينتقدونه لدى غيرهم، ومن ذلك أشهر فلاسفة ألمانيا الأحياء يورغن هابرماس الذي نكتشف، بما قدّمه من تبرير للعدوان الصهيوني، أنّ "عقله محتَلّ"، حسب عبارة زميلنا شوقي بن حسن (مقال أركيولوجيا العقول المحتلّة، العربي الجديد). يمتنع هابرماس عن التفكير تماماً حين يتعلّق الأمر بدولة الاحتلال، وهو الذي جاب القضايا الفكرية والسياسية والاجتماعية معتمداً على النقد ونقد النقد.

كم يعزّ على المثقَّفين العرب الذين استلهموا أعمال هؤلاء المفكّرين الغربيّين لعقودٍ، أن يَروا مصادرهم وقدواتهم تتساقط ضمن انهيار قيمي لا تعليل له، وتهافت أخلاقي لا تشفع له أيّة نظرية مهما كانت نصاعتها. ولعلّ خسارة العرب لا تُقاس مقارنةً بما يُحدثه السقوط الأخلاقي من شروخ في أنساق الحداثة الغربية التي سُوّق لها كأعلى قمم التفكير الإنساني... ألم تفشل في امتحان عدوان غزّة؟


* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس

المساهمون