الآن، أنا في طريقي إلى "المتحف الفلسطيني" في بيرزيت من أجل معرض. ليسَ لديَّ متّسَع من الوقت للمقدّمات، الواحدة ظهراً موعدي مع قيّم المعرض، هكذا اتفقنا عندما دُعيت عبر "الإيميل". تستغرق الطريق بمركبة عمومية ساعةً ونصف الساعة في الحدّ المتوسّط، من بيت لحم، ومعي ساعتان ونصف الساعة، ودقِّقوا أنّني قلت "في الحد المتوسط"، ولم أقل "في الوضع الطبيعي"، إذ ما من شيء طبيعي في التنقُّل داخل هذا البلد. يصرخ "الشوفير" ونحن في بلدة بيت ساحور: "كلّكم لابسين كمامات؟ الشرطة مستنفرة وبتلمّ مصاري"، يقصد إصدار المخالفات، ويسأل الراكب الذي بجانبي: "أي شرطة فيهم؟"، يقصد الفلسطينية أم الإسرائيلية، فيردّ الشوفير: "مش مهم"، ويرفع صوت الراديو، فينهال المذيع بنشرته المكدّسة بكلمات "الاحتلال، اتفاق العار، الأسرى، كورونا، الخارطة الوبائية". ومع انتهائه بجملة "الخارطة الوبائية"، كنّا قد قطعنا طريق وادي النار، ووقفنا في طابور المركّبات عند حاجز "الكونتينر" العسكري.
مع حرارة الشمس الملتهبة، وخضخضة الطرقات التي تتجنّب "المستوطنات"، ضاع مجهودي الذي بذلته في كيّ القميص وتصفيف الشَّعْر قبل الخروج، حتى مفعول العطر الذي استنفدت نصفه، ضاع لوهلة، ونسيتُ أمر الفعالية الثقافية. يُطلِق الشوفير نداءَه في منطقة العيزرية: "اربطوا أحزمتكم، هناك شرطة إسرائيلية"، أنظُر إلى هاتفي وأُقرّر أن أكتب منشوراً على حسابي في فيسبوك عن وفاة والدة الأسير سامر العربيد: "هل سمعتم بالوداعات غير المكتملة؟ إنها أصعب من وقع الفراق على القلب، كالقصص التي نعيشها كلّ يوم ونسمعها عن الأسرى والشهداء، يُختطف الشخص بغتةً ويبقى باب والدته وزوجته مفتوحاً على مصراعيه لأي خطوة، لأي رنّة تُنذِر بالعودة".
بحلقتُ وقلت له: لم يتغيّر شيء.. نفس العناوين
أنظًر إلى ساعتي، تبقّى نصف ساعة وأنا لا أزال في منتصف الطريق، ليس لديَ متّسَع من الوقت، أُقرّر أن أراسل المتحف لأُعلِم قيّم المعرض بتأخُّري، ولكنّي أغرق قبل هذا بمشاهدة بثّ مباشر عبر الصفحات الإخبارية لأول طائرة "إسرائيلية" تحطّ في الإمارات وتحمل اسم "كريات جات" نسبةً لاسم مستوطنة إسرائيلية أُقيمت بعد مجازر على أنقاض قريتَي "عراق المنشية" و"الفالوجة" عام النكبة.
الكثير من الدماء التي سُكبت، الكثير من الدماء التي تغلي برؤية هذا المشهد الفاجر! يصرخ الشوفير صرخته الثالثة: "طريق مخيّم قلنديا أزمة، رح أمُرّ من طريق حاجزالـ DCO"، فتطول الطريق ويضيق صدري أكثر، وأتمتم أنا في سرّي ساخراً: حياتنا جزءٌ من متحف.
شعرتُ في هذه اللحظة بالذات، وأنا أتماوج من حرارة الشمس داخل مركبة تهيم من لعنة "أوسلو" في الطرقات، بحاجة إلى صرخة تشبه صرخة لوحة الفنان مونك، وللمفارقة، فاللوحة معروضة بمدينة "أوسلو" في النرويج.
بعد تأخُّري لأكثر من ساعة، تأجَّل الموعد ليومين. وفي موعدي الثاني، بينما كنتُ أتجوّل داخل المعرض الواسع، لفتني المشرف على المعرض إلى عناوين إحدى الصحف الفلسطينية المطبوعة قبل أربعين عاماً، معروضة على الحائط، بحلقتُ، وقلت له: "لم يتغيّر شيء.. نفس العناوين"، وأكمل هو معلّقاً: "نعم، الأسماء هي التي تغيّرت، فقط".
* صحافي من فلسطين