"سأذهب إلى سانتياغو كوبا في عربة من الماء الأسود"
(لوركا)
... وقلتُ لا بدّ من الذهاب إلى كوبا قبل أن تتحوّل إلى دولة نمطية كبقية دول المحيط الرأسمالي بديكور غربي وبذات أساليب التحكّم القديمة والفقر القديم. اليوم هناك سفارة أميركية وأشياء كثيرة تتحوّل على عجل في الجزيرة. في هذه اللحظة التي صار فيها التاريخ يسير بسرعة ضوئية، حتى إننا لم نعد ندرك تحوّلات التاريخ، فما إن نحاول استطلاع واقع ما، وقبل أن نعيه بالكامل، يكون قد انسحب إلى ظلمة الماضي، ونلفي أنفسنا أمام واقع آخر علينا قراءته، وهكذا.
إذا كان سقوط الإمبراطورية الرومانية قد استغرق ثلاثة قرون حسب المؤرخ الإنكليزي العتيد إدوارد جيبون Gibbon. والإمبراطورية العثمانية استمر تدهورها مائة سنة من يوم ما أطلقوا عليها تسمية "الرجل المريض"، والرجل لم يكن مريضاً، فإنّ الاتحاد السوفييتي سقط في أقل من عشر سنوات.
قلتُ لا بد من الذهاب على عجل إلى كوبا ليس مثل لوركا في عربة من الماء الأسود حالماً بعلب التبغ التي عليها صور روميو وجولييت، بسعف النخل الذي يطير في الهواء كاللقلق، وبقناديل البحر وبرأس فرنشيسكا الأشقر... بل في طائرة تحطّ بي في الجزيرة، لأرى وأعايش وأكتب عن كوبا ذات الألوان الحارّة وعن الحياة الشيوعية اليوم، الشيوعية التي صارت محلّ نقد بل تندّر الكثير من نخب العالم الثالث المرتبطة بالمركز الغربي؛ وأنا أعتقد أن محاربة الشيوعية تنطوي على بعد لا أخلاقي وهناك مغالطة وتزييف كبير للتاريخ. أنا لست شيوعياً، ولكن هكذا أرى الأشياء.
أريد أن أكتب عن نساء ورجال كوبا السمر الشبيهين بنا
فلولا ستالين الذي وقعت شيطنته، ما كان لروسيا أن تصير اليوم دولة عظمى، وهذا لا يعني تبرير الأخطاء والإجرام والظلم الذي لحق كثيرين؛ فالغبن والعنف مصاحبان للتاريخ. العنف في التاريخ هل هو قدر؟ سؤال فلسفي قديم... ولكن يجب أن نعطي ما للمسيح للمسيح وما لقيصر لقيصر.
أريد أن أكتب عن نساء ورجال كوبا السمر الشبيهين بنا في سحنهم وتأججهم وموسيقاهم الجارحة. وأن ألتقي بهم في أحيائهم الشعبية في شوارعهم وتجمعاتهم.
أريد أن أكتب عن مقاهي هافانا وباراتها الشعبية ذات الألوان الصفراء والحمراء والزرقاء الفاقعة، أكتب عن البوليرو وموسيقى السالسا والسامبا وعن مسارح البالي. عن متاحفها ورساميها وأن ألتقي شعراءها وأن أذهب إلى دار الأوبرا وأكتب عن عمارتها الباروكية كما تركها الإسبان وكما شاهدت صور تلك العمارة في كتاب صديقي الفوتوغرافي الفرنسي ليونار دي سلفا الذي ذهب قبل سنوات مع إحدى الفرق المسرحية الفرنسية إلى كوبا وأقام أشهراً في هافانا ووصف لي رحلته تلك وإقامته وسط تلك العائلة، لأنك إذا أردت أن تتعرف إلى بلد، فلا بد أن تقيم وسط الأهالي. الفندق يعزلك عن حياة الناس الحقيقية. لليونار كتابان عن منطقة الكاريبي.
أريد أن أكتب عن كوبا برائحة ونكهة تشي غيفارا ورفيقه كاسترو. كاسترو الذي امتدت به الحياة إلى أرذل العمر كما تقول العرب وحافظ على حلمه، لأن من يخون أحلامه ينكسر من الداخل ويسرع إليه الموت البيولوجي. أريد أن أكتب عن كوبا ذات الألوان الحارّة والموسيقى الصاخبة. كوبا سقوف النخيل وحقول التبغ وقصب السكر التي أنشدها نيكولاس غيين.
كوبا الشواطئ البدائية وخليج هافانا حيث لا يزال البيلار قارب همنغواي يبحر لا مرئياً في مياه خليج هافانا وفي خيال قراء "العجوز والبحر".
كوبا البحر الكاريبي الوحشي بحر إيمي سيزير وسان جون بيرس وغارسيا ماركيز. كوبا ذات الملمح اللاتيني الإسباني الأفريقي المزيج الحريف من ثقافات وأعراق جاء بها القرصان والمغامرون الإسبان والبرتغاليون والإنكليز والهولنديون.
أريد أن أذهب إلى كوبا قبل أن تتحوّل إلى مجتمع استهلاكي وتصير ملحمة الفرد وطقوسه تختزل في الذهاب إلى السوبر ماركت ويتحوّل كوجيتو ديكارت لديه إلى: أنا استهلك فإذن أنا موجود؛ مكان أنا أفكر إذن فأنا موجود.
■
ربما لديّ شيء من الحسّ الرومانسي. في الجزائر وفي ركن قاعة الاستقبال في فندق هلتون وتحت نجفة الكريستال التي تشعّ بضوء برتقالي متلامع في زجاج القاعة روى مويكا الكاتب الصحافي الكوبي قصة مجيئه للجزائر أول مرة قبل خمسين سنة ليكون مراسلاً لوكالة الأنباء الكوبية. قال: "كنتُ في الثانية والعشرين عندما قدمني تشي (هكذا يتداولون اسم غيفارا في كوبا) إلى أحمد بن بلّة لأكون مراسلاً صحافياً في الجزائر. وها أنا أعود إلى الجزائر بعد خمسين سنة".
همنغواي لم يكن مصاباً بالبارانويا، بل دفعته أميركا إلى الجنون
مويكا شبيه في سحنته السمراء ونحافته وابتسامته التي تظهر أسناناً بيضاء مصطفة كأسنان المشط بالفيلسوف الهندي كريشنا مورتي، إلا أنه ليس روحانياً ككريشنا.
في تلك الجلسة، حدثتُ مويكا عن حلمي بزيارة هافانا وأن أسير على خطى إرنست همنغواي وأزور دارته الفينكا وبار لافروديتا الذي التقى فيه ولأول مرة هتشنر الشاب الصحافي الذي صار صديقه حتى آخر أيامه التي عاشها بين المشافي والعيادات النفسية، وكيف كانت نهاية همنغواي المأساوية بمرض البارانويا عندما تملكه هاجس الاضطهاد؛ ويردد باستمرار أن البوليس الفيديرالي الأميركي يراقبه للإيقاع به. هكذا روى هتشنر في كتابه الرائع "بابا همنغواي" وهو سيرة صداقة استمرت بين الرجلين من 1948 حتى وفاة همنغواي منتحراً.
وبلحظة قاطعني مويكا قائلاً: "لدينا في كوبا رواية أُخرى. همنغواي لم يكن يهذي وهو يشكو من مراقبة ومتابعة البوليس الفيديرالي له، همنغواي لم يكن مصاباً بالبارانويا، كما كتب صديقه هتشنر، بل كانت له مشاكل حقيقية مع السلطات الأميركية، والسلطات الأميركية هي التي دفعته إلى الجنون، أي إنهم أصابوه بالبارانويا إن شئت التعبير وذلك من جراء مضايقاتهم الممنهجة. وما تبع ذلك من عذابات الحجز في العيادات النفسية، والجلسات الكهربائية التي أخضع لها. لأن السلطات الأميركية بكل بساطة لم تكن تريده أن يظل في كوبا، ما يمثل آنذاك دعاية قوية للنظام الشيوعي الوليد من حامل نوبل شهير".
* شاعر ومترجم من تونس