كان يا ما كان... في سالف الزمان، كان هُناك فتاة جميلة، شعرها أحمر ووجهُها شديدُ البياض، تلبسُ دائمًا رداءً أسود يجعل بياض وجهها قمرًا يضيءُ ظلمة الغابة التي كانت تسيرُ فيها كل يومٍ دون رغبةٍ منها في الوصول إلى مكانٍ ما. وكانت الفتاةُ كلّما مرّت بأحد أهل الغابة... بكى.
فهكذا كان حال أهل الغابة حين يرون شيئًا بالغ الجمال ولا يستطيعون احتضانه، يبكون؛ لأنّ الجمال عندهم كالحزن، يصيبهم بالبكاء. لا يعلم أكثر أهل الغابة سر هذا الأمر، ولا كيف بدأ. يقول أحدهم إنّ أسلافهم البعيدين كانوا يرون جمالًا أشدّ آلاف المرات مما بقي إلى أيامهم، وكان يصرعهم الجمال فيخرّون من فورهم صرعى ذلك الجمال القتّال. وبمرور الزمن كان أثر الجمال في نفوس أهل الغابة يقل شيئًا فشيئًا كلّما قطف إنسانٌ وردةً دون أن يسألها إن كانت تُحبّ أن تغادر زرعتها. وكُلّما قل الجمال كان أثره يخفتُ في نفوسهم إلى أن اختفى كل جمالٍ في الغابة ولم يبقَ إلا تلك الفتاةُ الجميلة ذات الشعر الأحمر.
كانت البنت تسيرُ وكلّما رآها أحدهم بكى دهشةً واحترامًا لقدسيّة الجمال الأخير الباقي. لم تكن تلتفت إلى أحد قطّ، وتُكمل سيرها ناظرةً إلى الأشجار ومراقبة العصافير الأخيرة التي تبقّى صوت زقزقتها في الغابة التي غاب عنها كل صوتٍ جميل. وفجأة، سمعت الفتاةُ لحنًا جميلًا على مقربة منها، فأغمضت عينيها الصغيرتين، وتبعت أذنيْها إلى أن وصلت إلى ذلك الصوت، وفتحت عينيها فإذا بفتىً جالسٍ إلى جذع شجرةٍ مُمسِكًا قصبةً مثقوبةً يعزفُ بها ألحانًا يولّد جمالُها في سامعه شعورًا بالألم. لم تشعر الفتاةُ بنفسها إلا وهي تبكي جالسةً إلى جوار الفتى مُنصِتةً إلى موسيقاه الجميلة التي أخذتها أخذاً.
جلست الفتاة واضعة كفّيها على ركبتيها وسألت الفتى:
- من أنت؟
فأجابها بنبرةٍ هادئة وصوتٍ خفيض ناظرًا إلى المدى:
- لا أدري.
فقالت له:
- كيف؟
قال لها:
- فمن أنت؟
تلعثمت الفتاةُ قليلًا، وتردّدت. فَاجَأَها السؤال الذي لم تفكر فيه من قبل، ثم أجابته بتردّدٍ:
- ممم لا.... أدري
فأجابها:
- أعلمتِ كيف يمكن ألا يدري الإنسانُ من هو؟
سألته:
- من أين أتيت؟
فأجابها:
- لا أدري.
فقالت له:
- كيف لا تدري من أين جئت؟
فسألها:
- فمن أين جاء النور؟
قالت له:
- من الشمس.
فسألها:
- ومن أين جاءت الشمس؟
قالت له:
- لا... أدري.
قال لها:
- وهي لا تسأل نفسها.
قالت له:
- لكن، كيف بقيتَ بعد أن ذهب كُلُّ جمالٍ في الغابة، وأظلمت كل بيوتها؟
فسألها:
- ما الجمال؟
قالت له:
- الجمالُ... مثلُك.
فسألها:
- وما أنا؟
سكتت الفتاةُ، ولم تُحِر جوابًا، غير أنّها، على عادة أهل الغابة... بكت. فمدّ الفتى يده ومسح دموعها، ثم التفت بوجهه ناحية صوتٍ بعيدٍ وكأنّه أخذ بروحه ولم يُبقِ له شيئًا، فأغمض عينيه ورفع رأسه تجاه ذلك الصوت. رأته الفتاة فلم تشعر بنفسها إلا وهي تغمض عينيها هي الأخرى وتسمع ذلك اللحن الجميل، ظلّ كلاهما على ذلك الحال طويلًا ولم يشعرا بأي شيء في الوجود إلا ذلك اللحن الذي أعاد كل جمالٍ غائب إلى روحيهما. وقبل أن يغيب، أمسك الفتى بقصبَتِه وبدأ يردّدُ ذلك اللحن الذي كان يسمعه. حاول مرّة، فلم يفلح. حاول الثانية، والثالثة، ولم يرد أن يفتح عينيه إلا بعد أن يعزف اللحن كما سمعه تمامًا.
وبعد أن ظنّ أنه نجح، سأل الفتاة:
- هل أعجبك؟
فلم تردّ عليه. قال لنفسه لعلّه لم يُعجِبها، أو لعلّها مأخوذةٌ باللحن الأول ولم يبلغ لحنه ذلك الجمال الذي كان عليه ذلك الذي سمعاه معًا. فأعاده مرّاتٍ ومرّاتٍ، لكنّها لم تردّ. ففتحَ عينيه ليسألها، لكنّه لم يجدها هناك. نادى:
- أين أنت؟ أين أنت؟
غير أنّ الغابة ظلّت، كما كانت دائمًا، ساكنةً، ليس فيها غير ذلك الفتى وقصبته، إلى جذع تلك الشجرة، يعزفُ لحنًا جميلًا لخيال ذلك الجمال الغائب الذي مرًّ به طيفًا جميلًا عابرًا.
* كاتب من مصر