حدود الترجمة

17 يناير 2022
جزء من لوحة لـ رونيه ماغريت
+ الخط -

لا يتردَّد كثيرون في تعريف الترجمة بكونها جسراً بين الثقافات، يَضمن للأفراد والمجتمعات التعارُف، والتفاهمَ، والحوار، والتعايش، وتبادُل الخبرات. وواضح أنّ هذا الحَدَّ، أي التعريف، لا يستنفد كلَّ إمكانات هذه الممارسة، التي يلتبس فيها الوافد بالمُستقبِل، وتتداخل فيها الإثنيات، ليتراجع أمام فعاليتها خطاب الهوية.

والواقع أنّ وجود الترجمة نتيجة منطقية للتعدّد اللغوي، الذي سببُه الشّتات البشري، منذ بابل حَسَب الأسطورة، وما نجم عنه من اختلافات ثقافية ولغوية، تسبّب طرح إشكالات الحدود، التي تُقيمُها ثقافاتُ العالَم ولغاتُه فيما بينها، فتُسيِّج بهما نفسَها، بغاية التميُّز عن سواها، ما يُثير قضية استحالة الترجمة، نظراً لصعوبة المرور من لغة إلى لغة أخرى.

ومع ذلك، فإنّ الترجمة تكشف، في أثناء حضورها، عن كونها نشاطاً بشرياً متواصِلاً، وأنها لا تُعنى بأمر العبور اللغوي، لأنها تجعل نُصب عينيها أنْ تطرح رؤية للعالم، وفلسفةً، وثقافة متفرِّدة، تتهاوى أمام زحفها الحدودُ، التي تسعى الثقافات المحافظة إلى إقامتها، تحت ذريعة الحفاظ على الهوية؛ وبذلك تُبدي الترجمةُ عدمَ اكتراثها بأمر استحالة أن تقول اللغة المنقولُ إليها ما تقوله اللغةُ المنقولة، لأنها تعي أن مهمَّتَها تتخطى العبورَ اللغوي، ولأنها ترى في مسألة إثباتِ وجودِ حدٍّ لها خطأً فظيعاً، لأن همَّها الأساسيَّ نَقْلُ النص، أو الخطاب، بل هو نقل الثقافة أيضاً، إلى فضاء ثقافي مُغايِر يُدخِلُ إليه الجِدَّة.

هذا المعطى أعلاه، يؤكده الروائي الأميركي پولْ أُوسْتِر، في حوار عميق وثريّ أجراه معه الفرنسيّ جيرار دُو كُرْتَانْز، ونُشِر في كتاب بعنوان "ملف پولْ أُوسْتِر: عزلة المتاهة". يلفت أُوسْتِر الانتباهَ إلى أثر الترجمة في الحياة الأدبية، بتركيزه على التفاعل بين الثقافات، الذي سبَبُه رواج الترجمة، التي تُعبِّرُ عن أثرها في شخصِه قبل أعمالِه؛ فهو في أثناء تكوينه الجامعي، درس الآداب الإنكليزية والفرنسية والإيطالية، واستقر في فرنسا شاباً، وعاش هناك سنوات طويلة، كان خلالها يكتب الشعر والترجمة والنقد والسيناريو، فكان بوتقة تنصهر فيها أجناسٌ وفنون عديدة، لا تُفلِح في جمعِها سوى الترجمة باقتدارها العَرَضاني. 

تخترق الترجمة الحدود التي تسعى الثقافات المحافظة لإقامتها

يُفنّد أوستر وهْمَ الحدّ في الترجمة باستحضار الاختراق، الذي تُحدِثه الأخيرةُ في النسيج الثقافي، فهي لا تهادن الأوضاع، ولا تستقر على حال، لأن لها صيرورة، ولأنها في نشاط دؤوب وحركية متواصلة، ويُمثِّل لديناميتها بشعر السوناتة، فيقول: "وُجِدت الترجمات منذ ظهور المَطبَعة. هكذا كان الكُتَّاب الأميركيون، على سبيل المثال، مثلما قُرّاؤُهم، يقرؤون لكُتّاب آخَرين أيضاً، لُغَتهم الأمُّ هي الإنكليزية، وكانوا يخضعون لتأثيرات مُختلِفة عن بلدهم الأصلي؛ ويكفي المرءَ أن ينظر إلى تاريخ تطوّر السوناتة فقط: السوناتة شكل وُلِد في إيطاليا، ثم انتشر في أرجاء أوروبا، وتولَّد عنه، من بين أشكال أخرى، السوناتة الفرنسية والسوناتة الإنكليزية".

في هذا المثال، يشدد أوستر على العامِّ مُشخَّصاً في السوناتة، قَبْل الانتقال إلى العينيّ مُمَثَّلاً في كُتَّاب بعينهم، ليبرهن على استحالة "وضع أبواب للبوادي"، وفق عبارة ثربانتيس، أي الإتيان بالمُستحيل، وهو إيقاف تمدُّد الترجمة وتأثيرها حيثما تَحُلّ؛ فهذا "فلوبير، الفرنسي، أثَّر كثيراً في جُويْس الإيرلندي، الذي أثر بِدَوره كثيراً في فُولكنر من أميركا الشمالية، الذي أثر كثيراً في الأميركي الجنوبي غابرييل غارثِيَّا ماركيز، الذي أثر كثيراً أيْضاً في طُونِي مُورِّيسُون. لا وجودَ للحُدُود! لم يَخطر ببال أيٍّ كان أن يقول إن طُونِي مورِّيسون أكثر كُتَّاب أميركا الشماليّة تأثُّراً بالأدب الكولومبي! تلك الحدود عبثيّة". 

هكذا، تُبرِزُ الترجمة أنها نشاطٌ لا يحُدُّه زمانٌ، لأنّها منذ أن ابتكر الإنسان اللغةَ وهي تحْضُر بشكليْها الكتابي والشّفهي، في سياقات متنوِّعة، لكنّ الترجمةَ، بصِفتِها تحقُّقاً نصِّيّاً، لا غروَ أنّ لَها حدّاً في الزمان، وأنها تشيخ لتَحلّ مكانَها ترجماتٌ أخرى.

* أكاديمي ومترجم من المغرب

موقف
التحديثات الحية