حدائق العاشق (7): سفاثا

15 يوليو 2023
سعاد العطار/ العراق
+ الخط -

ننشر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


"ما بيننا يتماثل للحضور
ودياني للريح
بستانك للسوسن".


تُقاطِعُ نصِّي أصواتُ بيانو، ظلالٌ تتقاطَع تحت أزهار بوكنفيليا، سفينةُ أشباح.

تقول صاحبة الحانة:

- "سفاثا هذه وُلدت في خيالكَ أيّها الآراميّ التائه، ستمائة عام أو أكثر، أنتَ لا تعرف حتى أين تكون".

- "ربّما هي أمامي مِن دون أن أدري... ربّما هي في أقصى ماضيكِ، أو ماضي الكون، نوعاً من بومبي الرومانية وصل صراخُ شهواتها إلى السماء، فقررتْ أن تطمسها تحت أكوامٍ هائلة من الرمال".

تحتجُّ الكاهنةُ التي لم تعد ترى شيئاً في غمرات الوجوه والأمكنة، ويرتجُّ عليها. مطرٌ وساحاتٌ وأنداءٌ وحفيفُ أجساد، اصطفاقُ مياهٍ على جوانب مرسى وزوارق خالية. أمسياتٌ، غاباتٌ، وأخيراً هذه المرأةُ تحت مسقط ضوء تُقلّب بين يديها ساهمةً، طائراً حجرياً منذ آلاف الأعوام.  

- "يتعدّد هذا النصّ، يتشظّى. ليلٌ كستنائي. ليلٌ فاحم. ليلٌ برتقالي. ليلٌ ساطع. لا أعرف ما أراه حقاً. قولي ما الذي ترين؟".

- "أرى متوحّداً يقترب من المتاهة، من الحجر الذي سيكون".

كان هارباً من مشهدٍ مائيٍّ تتلامحُ تحته الطيورُ والنساء والظلال

الشيطانُ وحده يعرف من أين جاءت جين بفكرة أن يعيشا معاً في غابة، ويكون لهما أطفالٌ بعدد أوراق الشجر. كانا في الصالة الواسعة ُينصتان إلى التردُّدات المُتناهية في جسديهما بعد ساعات من الالتحام المتواصل. وداعبها بقراءة سطر من سفر التكوين:

- "في البدء كانت الكلمة... وكانت الظلمةُ ترفّ على وجه الغمر...".

فصرخت بغيظ:

- "اللعنة عليك وعلى سِفر التكوين".

لساعاتٍ ظلّتْ تشهق وتُردّد:

- "أشعرُ بكَ... أشعر بكَ في داخلي".  

لا تستطيع متعتها دون أن تقولها عاريةً بلا استعارة لُغوية. أما هو فكان يأخذها إليه متمهّلاً مُنحنياً على صدرها الشاسع بِرقّةٍ حانية إلى أن يشعُر بها تهتزّ عدّة مرّات مُتتالية، وهي تشهق.  

- "ما بكِ؟".

فتقول بأنفاس متقطّعة: 

- "أنا كبيرة، وأنتَ تُثيرني بلا توقّف... هل تشعُر بشيءٍ؟".  

- "ماذا تعنين؟".

- "هل يمنعكَ شيءٌ من الدخول في العمقِ... شيءٌ...". 

- "لا...". 

- "استأصلتُ رحمي منذ سنوات...".

وخرجتْ من ارتخائها وسكونها متسائلة:

- "أتعرف... لو أنّنا وحدنا في غابة لكان لدينا مئات الأطفال... أنتَ ساحر".

- "هل تتصوّرين أننا سنظلّ هكذا كلّ يوم؟".

- "لا أقصد هذا... ولكنْ كَم سيكون مُمتعاً لو كنّا متزوّجين... سيكون الأمر رائعاً".

لا يجد ما يقول، يكاد يُطلق دعابةً ساخرة أُخرى، إلّا أنه يتراجع. بسكونها وشعرها القصير وخدّيها البارزين وجسدها الذي امتلكه منذ لحظات، وأمنيتها اليائسة، كانت تُطلق فيه إحساساً بسفينةٍ جانحةٍ تتحطّم على صخور الشاطئ.

حين تنتبّه الإيطاليةُ إلى تكرار لفظة الحجر، تتساءل:

- "كيف لحجَرٍ أن يُثير كلَّ هذه الفانتازيا؟".  

- "لمجرّد المتعة... مجرّد الصمت الكثيف، وجودٌ يحمل عرائشه إلى الداخل، نهرٌ يخشى أن يتدفّق ويصحو فإذا هو تائه في الصحراء".

كلُّ شيء يُقاطِعُني. يتدخّل، ويقتحم النصّ، آتياً من كلِّ الجهات

وجهُها الأسمر النحيل، ويداها الأكثر جدِّية من يدي مِحراث، وساقاها الرفيعتان تحت فُستانٍ بيتيٍّ باهت الألوان، كلّ هذا يجعلني أتساءل عن ذلك الخيال الروماني الأثيري، والدفلى الطافحة بأزهارها الحمراء قريباً من السُّور المُتداعي لمنطقة الآثار.

أقداحُ النبيذ والزجاجاتُ الفارغة وبداية النهار.

أصواتٌ مُتناثرة تحت الشُّرفة الضيقة. نهرٌ تائه في الصحراء.

حين خرج جدِّي من سافاثا ذاتَ نهار بعيد، ربّما كان هارباً من مشهدٍ مائيٍّ تتلامحُ تحته الطيورُ والنساء والظلال. ربّما كان ضَجِراً من هذه العقود العبّاسية، وزقزقةِ العصافير اليومية في سدرة البيت كلّ صباح، ربّما كان حانقاً على هذا الطريق الوحيد الذي يقود من السُّوق إلى منارة المسجد الزرقاء. ربّما كان مُحتشِداً بسلالة لا يعي أنها ستنشأ، وتتكاثر في الشمال البعيد، تحت نثار الثلج المتساقط فوق الصنوبر والحدائق المُعتِمة.

ربّما كان كلّ هذا، إلّا أنّ المؤكّد تماماً، خلو يديه من الخيط الذي قد يقود إلى الوراء.

- "الوجود متاهة. وجوهُ النساء، دورةُ الليل والنهار، سقوط الأحطاب في عمق الغابات، زعيقُ الترامفايات، طُرق الصحراء البيضاء، ضبابُ الجبال البعيد، هذه التضاريس الأرضية التي نراها قبل أن تحطّ الطائرة...".

- "توقفْ... توقفْ أنتَ تُحاول تضليل الزمان والمكان، أنا مكان، وأنت كذلك".

- "اصبري قليلاً، كلّنا أمكنة في الزمان تتتابع، هكذا تقول اللُّغة التقليدية، نتوالى بالاعتياد، لأنّ أعمق ما فينا تُخفيه اللغة والتتابُع، تصوّري لو أنّنا ضغطنا كلّ هذا في جملة واحدة وقذفناه معاً، ما الذي يحدث؟".

- "ولكن ما تُحاوله ليس هذا، أنتَ لا تضغط، بل تشتّت...!". 

أصواتُ بداية النهار تتناثر تحت الشُّرفة الضيّقة. هُنا جلست ليندا ذات صباح تتأمّل الشارع، وهُناك جلسَتْ إسبانية بيضاء، بشعرها الأسود الطويل، تحدّق بسماء غرناطة، وهي تضجُّ بصيحات طيور السنونو، وهُناك تلعثمت الكاهنة، وتوقّفت عن التنبُّؤ، وهي تُصغي إلى حفيف الأوراق المتساقطة. 

- "ليس لديّ ما أصوّب إليه بدقّة. ما نصوّبه ذرذراتُ الروح نحو أعماق مُراوغِة".

ما أخلو منه تماماً هو أن أجعل جين أقلّ يأساً، وليندا أقلّ نأياً. وأنتِ أشدّ جسديّةً من هذا الإحساس الصُّوفي الذي أتموّج في ناره الساكنة. ما أخلو منه تماماً هو البُكاء العلَني الذي ينشجُ في الداخل مثل حديقة بريئة. كلُّ شيء يُقاطِعُني. يتدخّل، يقتحم النصّ، آتياً من كلّ الجهات، فأمنحُه رقّة الرذاذ، حالماً بحقول نوار شاسعة، تترائين وراءها، أتراءى، ولا نجرؤ أن يهرع أحدنا إلى الآخَر.

- "تلك هي المعبودة مرّة أُخرى".

تُعلِّق الإيطاليةُ وتُخفِي عبوسها للحظات.

لا زالتِ الريحُ تتردَّد بين الخمائل المهجورة والأنصابِ الحجَرية.
 

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون