حدائق العاشق (19): ميناء الأشباح

14 أكتوبر 2023
هوغيت كالان/ لبنان
+ الخط -

ننشُر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد، الذي غادر عالمنا في سبتمبر/أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


"سترى كم هي جميلة الغابة القلقة 
في أرق ليالي يونيو".

(د.ل. ميلوش)

 

أنا ناج من قبيلة مفقودة، الناجي الوحيدُ ربما، لأن لغتي لم يعُد يفهمها أحد، وحقيبتي ممتلئة بأشياء لم يعُد يتذكّرها أحد، ولأنني، وهو الأكثر أهمية، أنادمُ أناساً وهميّين من عصورغابرة، أدعوهم إلى مائدتي، أو يدعونني إلى منازلهم. وما إن ترتفع شمسُ النهار حتى تختفي الموائدُ والمنازلُ، ولا تظهر علامةٌ تقودني إليهم أو تقودهم إلي. 

أنتظرُ الليلَ لأتخذ طريقي إلى هذا البار الذي تسكنه رائحةُ البحر، وتغني فيه امرأةٌ آسيوية، لصوتها رنينٌ ولعينيها نشوةُ غابة تحت ضياء القمر، وتحتضن فيه غجريةٌ كأسها كأنما تحتضن أيامها الأخيرة على هذه الأرض إلى أن ينسرب شيء من روحها، فتندفع بعنفٍ وتنشب أظافرها في صدر صاحب البار العجوز.

أنتظرُ الليلَ لأرى عابرين يلصقون وجوههم بزجاج نوافذهِ، ويتركون وسماً من ضباب قبل أن يغيبوا، لأرى رجالاً ونساءً قلقين يتوافدون في منتصف الليل كأنّ سفينة أشباح تركتهم على الشاطئ فجأة فانسربوا في أيّ مكان يلمحون فيه نافذة مضاءة، أو يسمعون فيه نغمة ماندولين متوحّد، أو يرتفع فيه غناءٌ عن الأيام الخالية. 

هنا التقيتُ بالمرأة التي نسيتْ أسماءها العديدة، أو تناستها، إن كان عليّ أن أحكم من طريقة استخدامها للأفعال. إنها تتحدّث عمّا يحدث دائماً، ولا تشير إلى ما حدث أبداً مهما كان نوع الحديث. لكلماتها أقمارٌ لامعة ونسيمٌ يهبُّ من أماكن لم يسكنها أحد بعد. ربما لهذا السبب تمنحها اللغةُ مظهرَ امرأة بلا ماض ولا طرقات ولا منازل تعود إليها. تتقدم دائماً وهي تجيل عينيها في وجوه الساهرين، أو تجلس مثل غابة ضاحكة، وتلقي بيديها على المائدة أمامي، تتلمّس يدي وهي تنظر في عيني، وتطلب مني أن أروي حكاياتي أو حكاياتها أو أي حدث لا تتذكّره.

على رصيفِ الميناء يتجوّل غرباءُ فقدوا سفائنهم، ومنحهم القلقُ والشرودُ مظهرَ نوارس أثقلها الليل، فلم تعد تستطيع التحليقَ أو الصياحَ في حضرة البحر القاتم، البحر الذي ينام الآن بلا فجر قريب. وفي الأزقةِ الداخلية، حيث يتكاثف شجرُ الكافور ويملأ الحدائق البيتية الصغيرة، ويُسمع خلف العتمة رنينُ الأقداح وموسيقى عازفين لامرئيين، تتحدّث أشباحٌ عن مدائن بحرية لا يراها إلّا الغرقى والقواقع والأسماك، وعن نساءٍ هيبّياتٍ جِئن من بلاد مجهولة، تطفو أجسادُهن العارية فوق الأمواج والزبد المُضاء تحت قمر لامع في الهزيع الأخير من الليل.

 إنها لا تتذكّر حديقة العاشق حيث تصل الشهوةُ حدّ جنون الحجر

إذا ابتعدتَ قليلاً، وخلّفت وراءك الميناءَ والبيوتَ الحجرية باتجاه التلال الصخرية وغابات الزيتون والتين، وأوغلتَ في الخضرة وحدها، والهواءَ وحده، ستكتشف نيراناً متفرّقة أمام الكهوف، وهديرَ غناءٍ وحشي يتصاعد من كهفٍ واسع تخالطه أصواتُ دمدمةٍ وعواءٍ وصراخ وعولٍ لا تلبث أن تهدأ... شيئاً فشيئاً، ويتحوّلُ الكونُ إلى تنفّسٍ هادئ ونشيجٍ يُسمع بين آونة وأُخرى.

في زمنٍ لا أتذكّره كان لقاؤنا الأول. ولأنها لا تصدّق ما لا تتذكّر، تندفعُ إليّ مثل سفينة خرجتْ إلى البحر الواسع من موانئ مفقودة، أو تتظاهر بعدم التصديق، فترتسم على جبينها وعلى سواد عينيها العميقتين وعلى شفتيها المُمتلئتين، حيرةُ طفلةٍ اختطفها قراصنةٌ أو تجارُ رقيق وباعوها في عواصم أجنبية.

لا تتذكّر لقاءنا في مدينةِ العقود العباسية وعصافير الدوري، ولا شجيرةَ الدفلى عند بوابة شقّتها ذات صيف، ولا مرسى القوارب حين احتضنتني والتمعتْ وراءها مياهُ القناة الكبرى بأضواء القصور الفينيسية. إنها لا تتذكّر حديقة العاشق حيث تصل الشهوةُ حدّ جنون الحجر وتتبادل الكائنات أحلامها، ولا الطائرَ الذي سقط في أحضانها وهي تجلس وحيدةً تحت مسقط الضوء في مقهى، ولا أول ضربات أصابعها على مفاتيح البيانو حين تموّجتْ ودومتْ أصواتٌ أحاطت بكل شيء، وظلتْ تتساقط في أماكن نائية.

أحياناً يذكّرني وجهها بوجهِ قديسةٍ في أيقونة روسية مُذهّبة انطفأت أمامها الشموع منذ زمن طويل، وأحياناً بوجهِ إلهة أرمنية نحت تمثالها عُراةٌ في ضوء مشاعلَ ملتهبة.

حين يتوقّف الغناءُ، ترفع المغنّيةُ يديها وتعلّق صوتها مثل خيط رنّانٍ في فضاء البار إلى أمد طويل، وتعود العيون إلى كؤوسها أو تحدّق في ظلام المرسى وراء النوافذ، وتعود الغجريةُ التي تفقد روحها أحياناً إلى مائدتها باحثة بعيونها عن شيء ما، عن بقيةِ نهار أو بقية ليل.

وتبتسم المرأةُ مُشفقة علي من خواء ذاكرةٍ باتّساع البحر. تقول إنني أتلبّس ذاكرتها عبثاً، فهي بلا ذاكرة، وأنتمي إلى ليلها عبثاً، فهي بلا ليل، وأتجوّل في بساتينها عبثاً، فهي بلا بساتين.

"ربما كنتُ وهماً...".

وتسحب يديها بلطف ويصيبها شرودٌ مفاجئ.

"حتى أنني لم ألمس يديكَ، لم ألتق بكَ، ولا كان شيءٌ ممّا يُحيط بنا. هذا البار وهذه الوجوه والأصوات فراغٌ تصنعه الكلمات، منازلُ نلجأ إلى فراغها إن أحببنا، أنا تأويل من آلاف التآويل المُمكنة، مثلما أنتَ متوحّدٌ من آلاف المتوحّدين".

في الأيام الأخيرة تحدّثتْ عن نهرٍغامض يُوقظها هدوؤه، وبريةٍ شاسعة تجمّع فيها نوّاراً من كلّ الألوان، برّيةٍ لا تتوقّف عن الامتداد كلما أوغلتْ فيها. وأخيراً تحدثتْ عن ميناء محدد تزحمه سفائنُ تجيء من أمكنة بعيدة، ويهبط منها تجارٌ وشعراءُ وفنّانون ومتشرّدون، إلا أنها لا تهبط، وتظلّ تتطلع من نافذة غرفتها الضيقة إلى الميناء، سجينة مقيدة في سفينة غامضة حمولتها الخمرُ والطيوب والعبيد والهيبيّون.

أنا تأويل من آلاف التآويل المُمكنة، مثلما أنتَ متوحّدٌ من آلاف المتوحّدين

أتوقّفُ عند هذا المشهد، أحاول تأويله بتفاصيلَ صغيرة، بأسماءِ المدن وألوان جلود البحّارة والزمن الذي يحدث فيه، وأنواع الأشجار، ولون غيوم ذلك الصباح، والأزهار التي كان يهبُّ أريجها على امتداد رصيف الميناء آنذاك، فتتغيّر ملامحها مثل صفحةِ بحيرة غادرتها أشعة الشمس الغاربة، تخلو عيناها من الظلال، تنسحب ابتسامتها، وتتشاغل بالنظر إلى أظافر يديها كأنها لا تراها، وتبدأ بالتلاشي شيئاً فشيئاً كلّما أوغلتُ في التفاصيل.

حين يحدث الفجرُ فجأة، وتتراءى ظلالُ المغادرين وراء النوافذ الزجاجية، وتصحو الغجريةُ الغافية على مائدتها وترفع رأسها ذاهلة، وتدندن المغنّيةُ وهي تسحب ثوبها الطويل وتغيب في عتمة الشارع الشفافة، يلمّ بالمرأةِ خدرٌ لذيذ يسري في أطرافها، ويتثاقل عند شفتيها، ويغمر خديها وينسرب إلى ظلال عينيها، فتحدّق في عينيّ وتنهض وعيناها لا تُغادران عيني، وقبل أن أُدرك ما سيحدث، تطوّقني بذراعيها وتشدّني إلى صدرها، كأنها تعتذرعن أسمائها المنسيّة وعن الموانئ المفقودة التي غادرتها.

حدث هذا منذ زمن بعيد، أو لم يحدث في الحقيقة، ولا زلتُ أنتظر حدوثه كلما اقترب الليل، واتخذتُ طريقي إلى البار الذي تسكنه رائحةُ البحر، أنا الناجي الوحيد من قبيلة مفقودة، ربما كانت قبيلةً من القواقع أو النوارس أو عصافير الدوري أو أزهار النرجس التي أغرقتها وحول الشتاء، ربما كانت قبيلة من رمال لا يتذكّرها أحد. 

لم تعد المرأةُ تتحدّثْ، لم تعد تلقي بيديها ضاحكة وتتلمّس يدي، لم تعُد تنظر إليّ أو تسألني حتى حين توقّفتُ عن رواية الحكايات، لم تعد تضيء وجهها شمعةٌ من أيّ نوع كان، وجهها الذهبيُّ يزداد نأياً في أعماق الأيقونة الروسية كلما أوغلتُ في التفاصيل، تزداد نأياً في أعماق معبدٍ مجهول، تتحوّل إلى غابةٍ متوحّدة كلما اقتربتُ من حافةِ مينائها المفقود.

المساهمون