حدائق العاشق (18): اللوحُ الآرامي أو ما تبقّى منه

07 أكتوبر 2023
ثريا البقصمي/ الكويت
+ الخط -

ننشُر على حلقات رواية "حدائق العاشق"، للشاعر والروائي والناقد الراحل محمد الأسعد، الذي غادر عالمنا في سبتمبر/ أيلول 2021، وكان من طليعة كتّاب القسم الثقافي في "العربي الجديد"، وأحد أبرز كتّاب فلسطين والعالم العربي.


"أخّذتُ فاكِ ذا الرقة، 
أخّذتُ عينيكِ السوداوين، 
أخّذتُ... ذا الثنية".

(من تعويذة أكدية)

          
لا يُعرَف حتى الآن ما إذا كانت سافاثا مدينة نهرية أم مدينة صحراوية، موطنَ أُمّة واحدة أم موطن أُمم مُتعدّدة، لا يُعرف هل تحدّث سكّانها بلُغةٍ واحدة أم تعدّدت بينهم اللهجاتُ واللغات. شيءٌ واحد معروف، هو أنّ شظايا ألواحها الحجرية المُكتشفة بين أنقاضها لا تحمل نقوشُها أبجدية من أيّ نوع كان، بل تحمل صورَ كائناتٍ، بعضُها ممّا نعرف ونألف، وبعضُها ممّا لم تقع عليه عينٌ ولا وعته ذاكرةٌ ولا صادفه مسافرٌ أو تخيّله فنّان. صورٌ منقوشة بأزاميلَ حادّة، ملوّنة في أحيان كثيرة بألوان نباتية أو معدنية مصدرُها مجهول. حكاياتُ أُناس تحدث ما إن تظهر الشَّظيَّة أمام أعيننا، وتختفي حالما نُبعد أنظارنا. أزمنةٌ تحوّلت إلى أمكنة. صورٌ في فراغ مأهول، نصفُ معنى أو لا معنى إطلاقاً، أحداثٌ مُحتمَلة أكثر ممّا هي أحداث مُكتمِلة.

كلُّ هذا بفضل غياب الأبجدية؛ مولودة الزمن، وشاغلةُ الفراغ حتى الحافة في كلّ بيت تُقيمه، خالقةُ الوهم بالحدوث والفوات والغياب. الصورةُ مشاعرٌ تتورّق، خطوطُ إزميل أو ضربات فرشاة، أو ثلمٌ في جدار الأيام، تحدث دائماً، الآن، وفي كلّ آن.

ربما كانت هذه النقوشُ أقدمَ بكثير من فجرِ المنطق الإنساني

يدور الأمرُ حول نقوشِ لوحٍ حجريّ مُكتشَف بين أنقاض معبدِ سافاثا الكبير، معبدٌ يقع شمالاً بين بساتين النخيل، على حافة الصحراء، يُقال إنها أُخذةٌ أو تميمة علّقها عرّافٌ ليسجن أو يقيد أو يخلّد روحَ امرأة محبوبة. أو يُقال إنها تأبيدٌ لحدثٍ تمّ أو يحدث الآن في فردوس غامض، أطلق عليه بعض من تأمّل النقوشَ اسم فردوس الجسد، بدليلِ الحضورالعميق لشخصين مُتعانقين بين أشجارِ آسٍ ورمّان. 

أو يُقال إن النقوشَ ترميزٌ لزواج سماوي بين الكائنات، بما فيها من نبات وحيوان، كانت الشعوبُ القديمة تعتقد أنه يحدث حين يكتشف الرجلُ المرأةَ فيعرفها وتعرفه، بدليلِ كثرة الطيور المحلّقة والأغصان المتشابكة، والكواكب التي بدت مثل أنهار من الرمال. إلّا أنّ هذه التأويلات رغم جمالها تُحوّل السرَّ إلى معرفةٍ فتفصلنا عن رجفته الأُولى. إنها تستخدم الزمنَ دائماً؛ حدثَ هذا الأمر أو ذاك، لتصل إلى معنىً ربما لم يكُن موجوداً أو ربّما لن يكون له وجود. تقليدٌ حديث تُمارسه ثقافةٌ شغوفة بالساعات الرملية والمزاول، ثقافةٌ لا تدرك أنّ هناك ليلاً دائماً لا فواتَ فيه؛ ليل الروح بشمسه القاتمة.

اللوحُ أو ما تبقّى منه لم يكُن إلّا شظايا. ربّما كان هكذا في الأصل... مَن يدري؟ لا أحدَ يهتدي إلى صورته الأصلية إلّا تخيُّلاً، فيمنحه الخيالُ آلافَ الصور المُحتملة. ويظلّ ترتيب الشظايا بحيث تكون نصّاً ذا معنى أو نصف معنى مُحالاً.

هنا بخورٌ مُرٌّ يتصاعد، قواريرُ طيب وعطور، شفاهٌ، كرمٌ أو بقايا كرم، عينان، فخذان لامرأة عارية... هنا شجرةُ أَرْز، قوائمُ سرير خشبي، وهناك يواقيتٌ زرقاء تُحلّي يداً طويلة الأصابع ونهدين قاتمين.

النقوشُ نفسها ليست أصوات لغةٍ يكون فيها الماضي والحاضرُ والمستقبل، ليست ألفاظاً تروي أخباراً، إنها أوعيةٌ من طين أحمر أو فخّار أو مرمرٍ مُعرّق نحدّق في فراغها، في هذا الفراغ وحده الذي تحيط به وتمسكه، الفراغ الذي صُنعت من أجله. 

وليست هذه هي الصعوبة الوحيدة، فالنقوشُ رغم أنها محفورة بالأزاميل لا تُماثل النقوش المسمارية، ورغم أنها تعرض صوراً إلّا أنها ليست هيروغليفية، إنها أحداثٌ مُمتعة بذاتها لا تكشف عن غير ذاتها، لا تمنح فكرةً بل إحساساً قوياً بالوجود. إنّها فنٌّ صافٍ تعود فيه القصيدةُ إلى بياضها، والوردةُ إلى عرائها، والمرأةُ إلى موجتها التي كانت عليها.

ربما كانت هذه النقوشُ أقدمَ بكثير من فجرِ المنطق الإنساني الذي بدأ يُسمّي ويُصنّف تحت شمسِ نهاره المرتفعة، متّهماً الليلَ بأنه نهار غامض، أو عالمٌ غابت شمسه إلى حين. فالكائناتُ التي تظهر فيها لا يبدو أنها عاشت في مكان مُحدّد، أو زمن معروف، لا يبدو أنها اتّخذت لها أسماء، أو اعتنت بأن تكون لها أسماء. كذلك يمكن القول عن الأشجار والكواكب والمقاعد، أو ما يبدو هكذا أمام أنظارنا.

الأكثر وضوحاً نقوشُ شظيّةٍ مُميزة بين بقايا ما نفترض أنه كان لوحاً: جسدُ امرأة إلهية عارية، يُجلّلها شعرٌ حالك السواد، تحتضن جسداً يبدو جسدَ رجل نحيل يحمل ملامحَ عرّافٍ أو كاهن أو قارعِ طبول في معبد. وتُحيط بهما عتمةُ حديقة يلتمع فيها بياضُ الياسمين وضبابُ أزهارالرمّان الحمراء. معبودة وعابد؟ ربّما. اثنان من الآلهة؟ ربّما.

لا أحدَ يعرف ما يحدث بين الاثنين، وأيّ همسة مبحوحة تردّدت، أو ارتجافة سَرَت، في اللحظة التي ارتسم فيها المشهد. تهمسُ المرأةُ: "سأجعلكَ كاهني الوحيد.. متاهتي الوحيدة". 

يهمس الرجل: "أخّذتُ فاك ذا الرقة، أخّذتُ نهديك العاريَين".

لا أحدَ يعرف إلا تأويلاً، لأن الشظايا الأُخرى تحمل صوراً مختلفة، كؤوساً فارغة على حافة طاولة صغيرة، مقعدين صغيرين، والكثير الكثير من الطيور، الطيور المحلّقة، مرّة في الجزء الأعلى من هذه الشظيّة، ومرّة في الجزء الأدنى منها، كأنّ من نقشها رأى السماءَ في كلّ زاوية من زوايا المشهد أو حدس بوجودها.  

تأويلٌ أول: حين نقتربُ أكثر ونركّز نظرنا نلمحُ على شفتي المرأة ابتسامةً مُطمئنّة يلمسها ضوءٌ قاتم، ابتسامة نشوة ولذّة، ونلمح جفنَين مُسبَلين، وكأنها همستْ لتوّها بشيء ما ارتجف له جسد العرّاف واضطرب، فتمتم بكلماتٍ أصابها الصمتُ وهو يُدير وجهه جانباً.

حين نُحدّق في جسد العرّاف أكثر نكتشف فجأةً أنه جسد متحجّر

الطيورُ تبعث البهجة، فهي منتشرة فوقهما وتحتهما، ويحتمل أن طاولة الكؤوس كانت قريبة منهما حين نهض العرّاف عند اقتراب الفجر، ففتحت المرأة ذراعيها وطوقت رقبته وضمّته إلى صدرها. ويحتمل أنهما كانا قريبين من شجرتي الآسِ والرمّان، ولا بدّ أن تكون الزهرتان الواضحتان جزءاً من شُجيرة رمّان مُزهرة ذات ظلّ أخضر، وكذلك أوراقُ الآس الذي كان يُزرع بكثرة في العصور القديمة. لحظة بهجة ربما... مُفاجئة.

تأويلٌ ثان: حين نُحدّق في جسد العرّاف أكثر، أو نلمسه ونمرّ بأصابعنا على خطوطه الحادّة، نكتشف فجأةً أنه جسد متحجّر، تمثالٌ في حقيقة الأمر وليس جسداً حيّاً، وأن من نقشه ودّ بإلحاح إيصال هذه الرؤيا، فأعضاؤه ذاهلة فيها من الحجر سكونه، ومن الرغبة قلقها، وليس كذلك المرأة الإلهية التي تضجُّ بالحيوية والطمأنينة وهي تشدّ إليها جسدَ الرجل. هل كانت تُعانق تمثالاً؟ أم أنها عانقت جسداً حيّاً فتحوّل إلى حجرٍ في اللحظة التي همّتْ به وهمَّ بها؟ 

تأويلٌ ثالث: في العتمةِ الواضحة، العتمة التي لا نعرف هل كانتْ في الأصل أم هبطتْ على النقشِ بسبب آلاف الليالي التي مرّت على المشهد، نلمحُ طرفاً حُلمياً في الصورة كلّها، حُلماً يهيمن على الكائنات. من الذي كان يحلم بالآخر؟ هل المرأةُ هي حلم الرجل أم أنّ الرجلَ حلم المرأة؟ أم أن الحديقة، أو ما يبدو كذلك، حلمٌ مشترك على حافة الفجر قبل أن تبزغ الكائنات؟

في روايات سافاثا المتداولة شفاهةً أنّ عاشقاً آرامياً حاول في أحد أحلامه مُعانقة المرأة المحبوبة، عرّافة المعبد المُمتلئة التي لم يكُن يبصر منها سوى هالة الشعر الأسود وهي تجلس بثوبها الأخضر الطويل وسط دخان المجامر، ولم يكن يسمع منها سوى وسوسةِ الحليِّ حين تغادر إلى غرفتها المُطلّة على البحر في أواخر الليل، ولم يكن يشمّ منها إلا رائحة المرّ واللبان حين تتهيّأ للاستحمام في حوضها المرمري الأزرق، وفي الصباح صحا من حلمه ليجد أنه تحوّل إلى حجر. 

وفي رواية أُخرى إنّ عرّافاً تنبّأ له منذ الطفولة، بأنّ رُوحه مقيّدة في تميمةٍ وضعتها امرأةٌ في ثنايا شعرها الأسود الطويل، وأنه سيظلّ تائهاً إلى أن يجد المرأة، في فرجة بين أشجار غابة، أو في أعماق معبد مجهول. التميمةُ تقيّده وتجذبه إليها، وتسحبه سواء أكان في سريره أم في حديقته، أم على شاطئ البحر، أم في عتمة بارٍ في مدينة تتعدّد لغات أهلها، أم كان بين أحضان امرأة أُخرى، أم اختفى في شعاب روايةٍ يحكيها لمستمعين في زاوية من زوايا مسجد يظلّل باحته النخيل.

هذه هي حديقة الشهوة، حيث يهرع آسافُ ونائلة أحدهما إلى الآخر

وفي روايةٍ أُخرى، إن العرّافة، وهي ترقد عاريةً في سريرها أو حديقتها المُحاطة بالمشاعل الخافتة، راوَدها حلم العاشق عن نفسها، فتقلّبتْ في سريرها مُنتشية قبل أن تنتبه إلى صوت البحر وهبوبٍ يُشبه هبوب الجسد، فتفزع إلى نفسها، وتنكمش وهي تشعر بجسدٍ يطوّقها، وشفتين تلمسان شفتيها، وتطلق لعنتها على هذا المجهول الذي لم تكن تسمع منه سوى ما نسمعه من أمواج البحر وعزيف أوراق الشجر، فتبعده بيديها مُرتجفة بين الحلم واليقظة.

أعودُ إلى الشظايا، وأتخيّلُ صورةً للّوح أصلية، أو حكاية: هذه هي حديقة التحوّلات، حيث يعترش الآسُ والياسمين، ويتناثر زهرُ الرمّان في ضباب الفجر الخفيف، ويترقرق صوتُ النبع، وتسكن الأيائل صاغيةً، وتتمايل الأعشابُ، وتتملّك الجسدَين ذاكرةُ نجم وارتعاشةُ نهر يتدفّق، وحفيفُ أوراق تتساقط في وقت واحد معاً. 

هذه هي حديقة الشهوة، حيث يهرع آسافُ ونائلة أحدهما إلى الآخر، فيتحوّلان إلى تمثالين حجريَّين، تَحوُّله يسبق تَحوُّلها لأن لمستها تسبق لمسته، ويتحجّرُ ما إن يعرفها وتتحجّرُ ما إن تعرفه، وتنقلهما قافلةٌ عابرة إلى واجهة معبد مقدّس في وادٍ حفَرته سيول قديمة، حيث تقدّم لهما القبائلُ الهمجية ذبائحها ونذورها. هذه هي حديقةُ العاشق الذي يتحوّل إلى حجرٍ حين يغلبه الألم، والحجر الذي يتحوّل إلى عاشقٍ حين تغلبه البهجة. 

الطيورُ ربما كانت نساءً في الماضي، وكذلك الأشجارُ والندى، هكذا تقول روايات سافاثا. فنجد كاهنةً تحاول أن تستيقظ ذات صباح وتنظر إلى جسدها فتتحوّل إلى سدرةٍ تزحمها العصافير، ونجد امرأةً أجنبية تحاول التقاطَ شعاع هارب على المرتفعات، فتتحوّل إلى شجرةِ بوكنفيليا مُثقلة بأزهارها الحمراء. ونجد صاحبةَ حانةٍ ساخرة تحاول الاهتداء بالموج، فتتحوّل إلى معبدِ لذائذ في مدينة مُطلّة على البحر، ونجد مُغنيةً تحاول أن تتناسق مثل سيمفونية هائلة فتتحوّل إلى ندىً يتساقط في أماكن مُتباعدة.

الطيورُ ربّما كانت نساءً في الماضي، لهذا تكثر صورُ الطيور في كلّ مكان على شظايا اللوح الآرامي، تحت الماء وفوق التراب وبين الغيوم والأشجار، حتى فوق المرأة الإلهية والعرّاف المُرتجف، وهو ما انتبهتُ إليه أخيراً. هنالك طيورٌ بيضاء تحلّق عالياً تجعلني أفكّر بالابتسامة المُطمئنّةِ على شفتي المرأة المُضاءة بنورٍ قاتم.

نصوص
التحديثات الحية
المساهمون