أطلقت مجلّة "الأقلام" العراقية عدداً خاصّاً حول مئوية السرد العراقي (تشرين 2021)، يضمّ حواراً خاصّاً مع الكاتب محمد خضير. تحدّث خضير في الحوار حول تاريخ السرد العراقي وما عرفه من تحوّلات في الخطاب واللغة، بالتوازي مع التغيّرات السياسية التي حدثت للبلاد، حتى أنه اعترف - وبكثير من الجرأة - بتأثُّر نصوصه ولغته بتلك التحوّلات.
ويصف خضير ما طرأ على الكتابة العراقية بعد حقبة الانقلابات العسكرية وتحوّلات الدولة السياسية بعد عام 68، حيث ذكر أنه، وكلّ كتّاب جيله تقريباً، غرقوا في لغة أسطورية شعائرية. ولا يُنكر أيضاً تنازلات قدّمها - على مستوى الشكل والموضوع - كتّاب ذلك الجيل، مبتعدين عن الكتابة الواقعية التي تركها لهم غائب طعمة فرمان وفؤاد التكرلي، حيث يذكر أن فرمان نفسه تذوَّق قصصه لكنّه اشتكى من لغتها الشعائرية.
ما نفهمه من ذلك أن الكاتب، عبْر كلّ العصور، محاطٌ بعوامل أيديولولجية أو اجتماعية تحدّد شكل ونوع الفن الذي ينتجه، حتى أن أندريه لوفيفر يذكر في كتابه "الترجمة وإعادة الكتابة والتحكُّم في السُّمعة الأدبية" أن شكسبير نفسه، بما تركه من أدبٍ عظيم وخالد، كان بمثابة مقاول إيديولوجي، حاول أن يتفادى بنصوصه المَسّ بالبلاط وقُدسية الملِكة بشكل خاص، أوّلاً ليحمي نصّه من التلَف، وثانياً ليحمي جسدَه من العقاب.
ولا يمكننا تجاوز فيودور دوستويفسكي وما كتبه من رسائل مادحة للقيصر، بعد أن تعرّض لأكثر التجارب إذلالاً، حين اتُّهم بمعارضة الدولة والانضمام لمعارضةٍ منشقّة، وأوصله ذلك بشكل مباشر إلى المشنقة. ماذا لو قُتل دوستويفسكي هناك؟ مَن كان سيكتب لنا "الجريمة والعقاب" و"الإخوة كارامازوف"؟ وكيف كان سيكون شكل العالم الذي نعيشه من دون تلك الروايتين؟
السُّلطة الجديدة تتمثّل برقابة الأدباء على أعمال بعضهم
وبالعودة إلى المشهد العراقي وما شهده الكتّاب عبر الحقَب من مراوغة بين السلطة الحاكمة وسلطة الضمير الأدبي؛ فالسلطة الدكتاتورية لن تمنعك مباشرة من الكتابة، بل تتيح لك خيار إعادة كتابة النصّ من خلال الرقابة، أو أن تأخذ الخيار الثاني بأن يتمّ إقصاؤك تماماً من المشهد الأدبي، فالسلطات الشمولية تملك ماكينات إنتاج كبيرة وفريدة، تحتكر من خلالها تقديم الكاتب والكتابة.
لم يترك لنا النظام السابق غير "دار الشؤون الثقافية"، الباب الوحيد الذي يقدّم لنا الكتّاب، ومن الطبيعي أن يقوم كتّاب ذلك الزمن بالكتابة بما تشترطه عليهم ملاحظات النظام والرقابة الأدبية، مثلما فعل شكسبير وغيره، ولكن لم يكونوا مقاولين إيديولوجيين: ربما كانوا عمّالاً فقط.
في عام 2003 مررنا بتحوّل سياسي خطير، حيث ترك احتلال العراق وانحلال الدولة الكثير من "الحرّية" لكتّاب تلك الحقبة. ظهرت العراق العديد من دور النشر الخاصّة، وصارت تُنتج العديد من المؤلّفات من دون المرور بحلقة الرقابة. إلّا أن السلطة سرعان ما عادت لتنبت من جديد؛ لم تكن سلطة الدولة بالطبع، لكنّها سلطة متشظيّة ومتعدّدة الأذرع، تمثّلت بالسلطة الدينية، وسلطة المانح أو الداعم الذي يحدّد اشتراطاته في طبيعة النص الذي سيرعاه؛ ولدينا نماذج عن كتّاب وضعوا أعمالاً وأعادوا كتابتها لتُلائم مزاج المانح.
ثم ما لبثنا زمناً حتى ظهرت لنا سلطة جديدة تُراقب الأعمال الأدبية، وهي سلطة الأدباء نفسهم على بعضهم البعض. لقد امتلك بعض أدباء هذه الحقبة أدوات العنف الاجتماعية والسياسية معاً. وشهدنا تهديدات تبادلها أدباءٌ حول مقالات نقدية نُشرت عن رواياتهم؛ تهديدات تلمّح بالاستعانة بقوّة العشيرة أو حتى استخدام السلاح ضدّ النقّاد أو الصحافيين، حتى أن أحد الأكاديميين تعرّض للاختطاف والضرب المبرح من زوج إحدى الكاتبات، جَزَاءً لمقالة نشرها ينال بها من كتاب زوجته.
في ظلّ كل ما سبق، كيف لنا أن نُحاكم النصوص دون استيعابٍ وافٍ للظروف السياسية والاجتماعية التي أحاطت بكتّابها؟
كاتب من العراق