حبل الكذب الطويل

17 اغسطس 2023
ثامر الماجري/ تونس
+ الخط -

في بناية الكومساريا، الكائنة بمدينة بروكسل، بجوار محطّة القطارات المركزية، لا يسألونك عن الاحتلال وما فعله بك من تنكيل وحصارات وحروب، فهو غير موجود بالنسبة إليهم.

ولكي تنجو من الفخاخ، وما أكثرها في رؤوسهم، لا مناص من أن تتحدّث عن أهوال اقترفتها "حماس" معك. ولهذا، لا بدّ أن تختلق كذبة تكون محبوكة وقابلة للتصديق.

وهنا، فلنتذكّر العمّ القلاز، وهو مضارب بورصة، فقدَ، كما يزعم، والعهدة عليه، ثلاثة ملايين دولار في البورصة المصرية. الرجل صاحب أمراض مزمنة، ونفَس متقطّع. ولا يستطيع المشي إلا مسوكجاً، ناهيك بأنّه جاوز الستّين بسنوات.

قال للمحقّقين إنّ "حماس" شبحته لمدّة 14 ساعة متواصلة معلَّقاً من رجْليه في السقف، مثل خاروف مذبوح ومعلَّق من عرقوبه، ثم راح يبكي، وأضاف إنهم سرقوا ماله، أيضاً. يا للهول!

عندما سمعت من لسانه القصّة، فطست من الضحك. لكنه الضحك المبكي، الذي يبدأ من قصّة العم وينتهي، حين حصولك على ورق، على خانة في قطعة الإقامة ـ البلاستيك، تفيد بأنّك، من دون خلق الله جميعاً: "عديم الجنسية".

ما علينا. ستكون لك جلسات تحقيق معهم، قد تبلغ، مع سوء الطالع، خمس جلسات، وكلّ جلسة قد تستمرّ لأربع ساعات وأزيد. هكذا أفهمتني "الأسستن" ساسكيا منذ أوّل يوم لي في مخيّم بروخم.

وطبعاً، كما أفعل عادةً مع الأطباء، اتبعت الطريق المعاكس لها، وقلت حقيقتي، عاريةً بلا رتوش، أمام المحقّقات الأربع (فتاة أفريقية مولودة هنا، زائد فتاة من أليكانتي بإسبانيا، زائد فتاة كانت فتى في بلاد الدومينيكان، ولما يزل وجهها شديدَ السمار يخبرك عن الأصل، مع أنّها طبعاً تلبس وتومئ، بل ورقصت في طرقة المبنى، بعد فترة الراحة القصيرة، كما إناث الله البشريات جميعاً، أمّا الرابعة ففلمنكية بحت، بعينين زرقاوين قاسيتين، كأنّهما عينا روبوت لا قِطّ).

أربع محقّقات، متخصّصات في كشف الكذب، على ما يُشاع بين اللاجئين ـ وهذا حكي فاضٍ. لقد حاولن معي كي أكذب، كنوع من التعاطف، لكنّي تَنَّحْت ـ والتناحة بالعموم ليست بالأمر الدخيل عليّ، منذ عقود الطفولة والصبا الأوّل.

لقد حاولن، كما حاول معي، وإن بشكل أكثف وأفدح، وبلا أية جدوى، رجالُ الشاباك من قبل. ظللتُ مصرّاً على روايتي، دون الالتفات إلى الكذب كحبل نجاة مضمون بين اللاجئين هنا، في المملكة المقسومة ثلاثة أقسام: فلمنكي وفرنسي وألماني، أمّا بروكسل فتبدو كمملكة مستقلّة عن الجميع.

والخلاصة؟ الخلاصة والله أنّني لم أحصل على ورق، إلّا بعد ثلاث سنوات ونصف، وإقامة سنة في مصحّات نفسية غير أنيقة، ومحاولة تمثيل الانتحار، بنصب مشنقة من حبال مجدولة متينة، وجرح الجسد في غير موضع، ولكم أن تتخيّلوا باقي القصّة!

سهّل الله عليك يا أسستن ساسكيا: كلّ كلمة قلتِها عن شجون دائرة الهجرة واللجوء، صحيحة.

أمّا بعد، نصيحة لكلّ اللاجئين: اكذبوا، تحصلوا على ورق، لأنّ حبل الكذب طويلٌ جدّاً في الأراضي الأوروبية.

اللهم يسّر وأعِن!


* شاعر فلسطيني مقيم في بلجيكا

موقف
التحديثات الحية
المساهمون