حاتم التليلي محمودي: "المجنون" وخلع براقع المسرح

22 نوفمبر 2021
من مسرحية "المجنون" لـ توفيق الجبالي
+ الخط -

قلّما يَحضر في ثقافتنا العربية البحثُ الفكري لفهم ما تطرحه الفنون، فمن التقاليد المكرّسة أن تعيش قطاعات الإبداع والمعرفة مثل جُزر معزولة، وهو وضع بات من الضروري تجاوزه وقد بدأنا نجد في السنوات الأخيرة محاولات جريئة لتغيير هذا الواقع. 

ذلك ما نقف عليه في محاضرة بعنوان "براقع المجنون؛ من تحرير الحياة إلى تحرير المسرح" ألقاها أمس الباحث التونسي حاتم التليلي محمودي ضمن ​فعاليات المؤتمر الفكري لـ"مهرجان بغداد الدولي للمسرح" في دورته الثانية التي تتواصل حتى 26 من الشهر الجاري.  محاضرة أقرب إلى لقاء بين فنان مسرحي ومفكّر: توفيق الجبالي في عمله "المجنون" (المقتبس من جبران) وفتحي المسكيني عبر مفهومه "الإيمان الحر".

تندرج ورقة الباحث التونسي ضمن الإطار العام للمؤتمر "مسرحة الرؤى في الاتجاهات الأدائية". يقول التليلي محمودي في مفتتح  محاضرته: "إنّ مسرح الرؤى، هو مسرح يخترق الحدث، ولذلك فهو لا يزول بزواله، بل يبتكر حدثا مغايرا، يشير إلى منطقة عميقة وبعيدة. مسرح من مهامّه تغيير الحياة لا تغيير العالم. ليس لنا بديل عن هذا العالم ولكن لنا بديل عن الحياة: هكذا تكلم السورياليون. مسرح ينتمي إلى القارّة المفقودة في أنفسنا العميقة، ولذلك فهو يتأسس من سديم النبوءات وإشراقات الأحلام وهذيان الشعراء وانسلاخ المتصوفة عن المؤسسة الدينية وطلاسم المجانين والطقوس الغابرة في أشلاء الأساطير. مسرح يكاد مستحيلاً توطينه في الوجود، مثلما تدلّ على ذلك رؤى جوردن كريك وأبيا أو غنوصية أرتو، أمّا محاولة جذبه إلى جغرافيتنا العربية فقد تبدو مربكة جدّاً".

يضيف: "​للتكلم في ضوء هذا الاستشكال المعرفي، ستهرّب هذه الورقة مفهوماً فلسفيّاً إلى حديقة الفكر المسرحي، ذلك الذي وقّعه المفكر فتحي المسكيني تحت عنوان "الإيمان الحرّ"، موصلاً نبأه إلى ثقافتنا العربية. تأتي الحاجة إلى هذا المفهوم من باب الاعتراض على سكننا في العالم وقد صرنا نحياه بشكل مفزع لأنّنا نشهد تحريفاً مريعاً للمقدس الديني واحتكاراً له، ومن ثمّ تنشيطه في شكل مصنع لتخصيب الدم ورقش الرؤوس. أمّا ما يحرضنا على تهريبه فمحور هذه الندوة الموسوم بـ"مسرحة الرؤى في الاتجاهات الأدائية"، ونعتقد أنّه بالإمكان استضافته ومن ثمّ تنشيطه مسرحيّاً". 

يرى صاحب كتاب "مذابح ديونيزوس" أنّ السؤال الذي يفيض بقوّته هو ذلك السؤال الذي يبحث في كيفية تحرير المسرح من سمومه كي لا يستبقي منه غير جوهره، ولنا أن نطرحه الآن بكلّ غليان رافض ومعترض على جلّ الأعمال المسرحية العربية التي قدمت عروضها في السنوات الأخيرة: كيف تكلّم المسرح أمام الكارثة التي تمّ تسييرها باسم المقدّس؟ وكيف له أن يتكلّم في ضوء هذا الجحيم بالتوازي مع الضرورات الجمالية والاتجاهات الأدائية الجديدة؟ هل ثمّة ضوء مسرحيّ اخترق الكارثة ومنها استلّ وجوداً مغايراً للإنسان في مدننا التي رفعت رايات الحداد؟ هل ثمّة أعمال فنية سكنت فلوات الفكر الهامشي ونجت من السقوط في مهنة حامل السلاح؟ كيف يمكن الاطمئنان لمحور هذه الندوة "مسرحة الرؤى في الاتجاهات الأدائية" إذا كانت الصحراء تزدرد منجزنا المسرحي؟".

يعود الباحث التونسي إلى الشخصية الأصلية؛ مجنون جبران، فيلاحظ  أنه "أحد تلك الذوات الحرّة التي حملت رؤاها الخاصة تجاه الوجود والعالم، ولذلك فإنّ عملية تشغيلها مسرحياً من قبل المخرج التونسي توفيق الجبالي ما هي إلا ضرب من الانتصار إلى الحياة بتحريرها من أفق الملّة، علاوة عن كونها تجربة جمالية جديدة تخلّص المسرح من خطابه السائد والمعتاد وتحرره من لغته التي تقادمت ولم تعد تمتلك طاقتها الترميزية في التعبير عن مشاغل الإنسان المعاصر".

يضيف: "إنّ "المجنون" الذي وقّعه جبران في سنة 1918، هو هذا الإنسان الذي سُرقت براقعه فاكتشف نور الشمس، وليست البراقع إلّا استعارات طريفة عن أورام الذّات التي تسكن الفضاء العمومي وأمراضها وغديرها وظلامها، ولذلك فهو حين يتعرّض إلى السّرقة يكون قد تحرّر: إنّه علامة فريدة على الانسلاخ من ثوبه القديم، كما لو أنّه حفيد جادٌّ لأفعى جلجامش التي تخلّصت من جلدها فمنحت نفسها شباباً جديداً. ربّ مجنون لا يمكننا إطلاقاً إخضاعه للتحقيب الزّمني أين شهد مولده في كتاب ورقيّ نشره جبران، إنّما هو صالح للسكن في برّيتنا الآن بقدر حاجتنا إليه وإلى ثورته ضدّ هذا الدّود التي تسرّب إلى لحومنا وضدّ انتماءنا إلى الموت. ولذلك فهو مؤهّل للانتقال من الورق إلى أركاح المسرح حيث رأيناه في عمل مسرحيّ تمّ توقيعه مشهديّاً برعاية توفيق الجبالي".

يعتبر التليلي محمودي أن هذا العرض "لم يكتف بخلع البراقع عن المجنون مثلما هو الحال مع جبران، بل ذهب أيضاً إلى خلع براقع المسرح السّائدة مثلما خلع البراقع الجديدة التي أنشأتها الثورات وقد  تحوّلت إلى عبء صار يجب كنسه. ولذلك، فإنّ مجنون جبران ليس إلّا صيغة عليا عن كلّ طاقة من شأنها تخطّي غدير السّائد". 

يرى الباحث التونسي أن خصوبة "المجنون" كعرض مسرحيّ تكمن في استناده على فكرة الاختراق التي ما من أحد يشير إليها غير الذوات الحرّة مثل مجنون جبران الذي يشبه الشاعر الرائي الذي قال عنه رامبو: "يحتاج إلى الإيمان كلّه، وإلى القوّة الإنسانية كلّها، حيث يصبح من بين الجميع المريض الأكبر، المجرم الأكبر، الملعون الأكبر، والعليم الأسمى، ذلك أنه يصل إلى المجهول" ، وتكمن خصوبته من خلال تنشيط هذه الفكرة في باحة مفهوم فلسفي هو الإيمان الحرّ حيث نتحرّر من إكراهات الحقيقة المطلقة التي تعلّبنا في وجهة واحدة وتسجننا في دائرة الملّة والتعصّب، وتكمن خصوبته أيضاً في تحرير المسرح من خطابه المعتاد لأنّه صار يستحيل عليه مخاطبة الجمهور بلغة قديمة في ضوء واقع جديد".

المساهمون