جيل كيبِل باحثٌ فرنسي مُلِمٌّ بمَوضوعه، وأحد أبرز الأسماء، في فرنسا، في مجال الدراسات الجيوسياسيّة الخاصّة بالعالم العربيّ، منذ أربعة عقودٍ تقريباً. وفي ماضيه العلميّ أكثر من ثلاثين كتاباً، دأبَ على نَشرها بانتظام كبيرٍ، حلّل من خلالها أهمّ ما طرَأ على المشهد السياسي العربي - الإسلامي وتبعات الأحداث إقليميّاً وعالميّاً. آخرُ ما أصدره كتابان: "الخروج من الفوضى" (2018)، في وصف مُخْرجات الربيع العربي، ونَفَسُه فيها سَلبيّ، و"النبي والجائحة" (2021).
وقد حَظي هذا الكتابُ الأخير بتغطية إعلاميّة لافتة، جَعلتْ من كيبِل "نجماً" من نجوم البَحث، والميديا قبل ذلك، تُعرض صورُهُ، بالحَجم الكبير، في بعض شوارع العاصمة الفرنسيّة، كما تُعرض صور نجوم السّينما والسّياسة ولوحات الإشهار. فما الذي جَعله يحتلّ هذه المكانة حتّى كاد أن يصبح ظاهرة مرئيّة، تَملأ المشهدَ الإعلاميّ والثقافيّ؟
إنّ المُطّلع على أعمال الرّجل، منذ بداياته مع "ضواحي الإسلام" (1987) و"ثأر الله: مسيحيون ويهود ومسلمون لغزو العالَم" (1991)، مروراً بقائمة أعماله التي أصْدَرها إبّان العشريّة المُنصرمة، مثل "شغَفٌ عربيّ" (2013)، و"شغفٌ فرنسيّ" (2014) و"مَن هو داعش؟ (2016)، وصولاً إلى "الخروج من الفوضى" (2018) وغيرها، يرى أنَّ الرجل لا يفعل سوى التعليق على أهم الأحداث التي تَهزّ الوطن العربيّ والعالَم الإسلاميّ، ورَبطها بما يجري في العالَم، جاعلاً من التحوّلات الكُبرى التي تهزّه مجرّد تنويعٍ على علاقات التضادّ والمواجهة بين الغرب والإسلام، فنَظَّر لها وضَخّمها في تحاليله، جرياً على مقولات صمويل هنتغتون.
خلق مدرسة موضوعها المحبّذ التحوّلات العربية والإسلامية
وفي الحقيقة، ما يَعرضه جيل كيبِل، رغم جِدّيته، لا يعدو ما هو متداولٌ في قنواتِنا العربية من العروض والتأويلات. بل إنّنا لو نَزعنا عنه ألقَ الصّياغة الأسلوبيّة الماهرة وبعض الترابطات بين الظواهر السوسيولوجيّة التي يُظهرها بحِرفته في الكتابة، لَما وجدنا تفكيكاً معمّقاً لِما يجري في ساحتنا من الأحداث، ولا تعليلاً جادّاً لما يُحرّكها من البواعث البعيدة، التي تحكم تَحديات "القرية الكونيّة" وصراعاتها.
وثمّة ظاهرة ثانية لديه، مع أنّها لم تكن مألوفة عند الأجيال الأولى من المستعربين الفرنسيين، وهي اختيار عناوين شديدة الإثارة، تقع على حدود التجديف بالنسبة إلى القارئ المُسلم، وتُحرِّكُها، بِالطَّبع، أهدافٌ تجاريّة بَحتة، يُراد منها أن تجلبَ انتباه الجمهور وأن تَدفعه إلى السؤال عن محتوى الكتاب، فإذا فتَّشه لم يَجدْ أيَّة علاقة مباشرة بين موضوعه والعنوان، ولا أنّه يُعبّر عن حَقائق علميّة، بل عن نزوات خيالٍ وتضخيم وجدان. ومن أمثلة ذلك عناوين: "في غَرْب الله" (1994)، و"فتنة: حربٌ في قلب الإسلام" (2002)، وآخرُها "رُعبٌ في فرنسا" (2015)، وهي عناوين أقرب إلى أسماء أشرطة هوليووديّة منها إلى أبحاثٍ موضوعيّة معمّقة.
مثلٌ ثانٍ، أقرب زمنيّاً، وهو عنوان كتابه الأخير: "النّبي والجائحة: من الشرق الأوسط إلى الجهادية كمناخ" (2021) الذي خُصّصَ لبحث تداعيات جائحة كورونا على سوق النّفط وتحوّلات الشرق الأوسط وتأثيرها في ضواحي العواصم الأوروبيّة من خلال ما استجدّ من اعتداءاتٍ إرهابيّة، كما لاستعراض نتائج تطبيع أربع دولٍ عربيّة مع إسرائيل، وذِكر بعض الأعمال الإرهابية التي ارتُكبت في فرنسا، دفاعاً، برأي أصحابها، عن نبيّ الإسلام. وهذا مَكمن الضّعف والتسرّع. فهل عملُ إرهابيٍّ شيشاني معزول، لمّا يتجاوز الثامنة عشرةَ من عمره، عاكسٌ لمنحى مليار مسلم؟ ومتى كان عملُه الفرديّ هذا، والذي أدانه مسلمو العالم قاطبةً، مرآةً لأيّ تحول جيوسياسي؟ ثمّ لماذا هذا الربط الآلي بينه وبين نبي الإسلام، إن لم يكن في هذه الرغبة الجامحة المشبوهة في الإثارة أكثر من أجل البَيع أكثر؟
وهكذا، تَسير سائر كتبه على هذا الهيكل الفكريّ الذي يكاد يكون مرسوماً سلفاً، فلا يحيد عنه: استغلال لبعض الأحداث وانتقاءٌ لها من جملة مشهد معقدٍ، يَعمل على سرده وربطه آليّاً بالصراع الدائم بين الغرب والإسلام، وكأنّه المحرّك الوحيد لسيرورة التاريخ، ثم تأثير ذلك في الضواحي الأوروبية. ولعلّه من خلال أسلوب الإثارة هذا يكون كيبِل قد أسهم في خلق مُتخَيَّل عن الإسلام وعن مسلمي فرنسا وأبنائهم، يُبالِغ في وصف أنشطتهم المروّعة، مع إغفالٍ تامّ للفئات العريضة منهم، داخل فرنسا وخارجها، ممن يعيشون في سَلام، مع ذواتهم ومع مُجتمعهم.
بمثل هذه الأعمال العامّة، ذات الأسلوب السرديّ، خَلق كيبِل "مَدرسة" تسود اليوم في فرنسا، مَوضوعها المحبّذ التحوّلات الجيوسياسيّة في العالم الإسلاميّ وعلاقاتها بأوروبا عبر الوصف الخاطف والاستعراض الخطّي لما يَحدث، من دون الغوص في الأعماق المحرّكة لها، ما يوقعه غالباً في نبوءات خاطئة، سرعان ما تكذّبها الأحداث اللاحقة، كما حصلَ مع كتابه "الجهادية: كسوف الإسلام الجهادي" (2000)، إذ ما هي إلا أيام بعد صدوره، حتى اهتزّت أبراج نيويورك باعتداءات سبتمبر، واستمرّت نظيراتها إلى أيّامنا.
من النّاحية المنهجيّة، تنتمي جلّ هذه الأعمال إلى الأبحاث السوسيولوجية الميدانيّة، أو هذا ما تدّعيه، وتستمدّ مادّتها من مراقبة ما يجري في ضواحي باريس ــ الميدان المفضّل لدى كيبِل ــ ولا سيّما الفئات المسلمة فيه، ثم ربط تموّجات تلك الضواحي بنزاعاتٍ تتأجّج في عواصِم الشّرق الأوسط والأقصى، من فلسطين إلى أفغانستان.
تَسير كتبه على هيكل فكريّ يكاد يكون مرسوماً سلفاً
ولكن، هل هي فعلاً أبحاث مُحَقّقة؟ نشكّ في ذلك. فَرغم الكِساء العلميّ الذي ترتَديه، لا تعدو، في غالبها، أن تكون تكرارَ أفكارٍ مألوفة، عن ظواهر بديهيّة، استنفدت دراسَتها. وهكذا، فالمنهج الضعيف لا يُحيل على حقائق علميّة مدعومة بإحصاءات بقدر ما هي ملاحظات تتّصل أحياناً بظواهر لا معنى لها، كتعجّبه من ارتداء شباب الضواحي آخر صيحات الأحذية الرياضيّة، مع الحفاظ على الجِلباب الأبيض والنّقاب.
بِمثل هذه الملاحظات الإثاريّة أسّس كيبِل"نهجَ" التّعليق السطحي على الوقائع الجيوسياسيّة وعَرْضها مادّةً للاستهلاكٍ، يستمع إليها الفرنسي العادي في غمرة ما يُغرقه من أخبار الدّاخل وأسواق البورصة وتقلّبات الموضة. ثم تُقدَّم تلك التعليقات على أنّها تحاليل عالِمة، تنتمي إلى علوم السياسة والبَحث الاجتماعي، لكنْ ما هي، في الحقيقة، إلّا بادِئ رأيٍ يَحتاج إلى فضْلِ تَعمّقٍ ومسافاتٍ نقديّة وغوص في الأسباب البعيدة. والأدهى أنّه نَجح في إرساء هذا النهج من التعليق حتى صار عددٌ كبير من باحثي فرنسا "متخصّصاً" في الشأن الإسلامي وقضايا الإرهاب والهجرة والاندماج، وهو ما غذّى ويُغذّي أطروحات اليمين المتطرّف، ومدّها ويمدّها بحُجج يستخلصها أشباه مفكّريه وضِعاف سِياسيّيهِ في تأجيج الكراهيّة ضد الإسلام والمسلمين.
يحدث ذلك مع إغفالٍ مقصود لمجهودات ملايينَ منهم يعملون في الخفاء ولا يطالبون بشيء سوى أن تتحقّق فيهم قيَم الجمهورية التي ينادي بها أصحابُها، كلما احتاجوا إليها، وكذلك قيَم الموضوعية العلميّة التي يَصدر عنها جيل كيبِل ونظراؤه من بحّاثة اليوم.
* كاتب وأكاديمي تونسي مقيم في باريس